يصدر اليوم في عدد من الصحف العربية"كتاب في جريدة"وموضوعه نيلسون مانديلا. هنا مقدمة الكتاب: أصبح نيلسون مانديلا في 10 أيار مايو 1994 أول رئيس أسود لجمهورية جنوب أفريقيا، وذلك بعد فوز حزبه"المؤتمر الوطني الأفريقي"بأكثرية ساحقة في أول انتخابات متعددة الأعراق في بلد كان يشكل آخر قلاع التمييز العنصري، وتذوق ملايين الجنوب أفريقيين من جميع الأعراق طعم الديموقراطية ورأوا أن نتائج الانتخابات ورئاسة مانديلا ولادة حقيقية لوطنهم. هذا الرجل الذي أصبح من رموز الحرية في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، يجسّد نوعاً خاصاً من الزعامة العالمثالثية، فعلى رغم نضاله المرير وسجنه المديد لم يخلط بين آلامه الشخصية ومتطلبات الوضع السياسي لشعب جنوب أفريقيا لا ل"شعبه"كما يقال في الكلام على زعماء العالم الثالث، وفي أحلك الفترات وأشدّها ايلاماً لم يعمد الى تغذية الحقد على البيض، إنما فرّق بينهم وبين النزعة العنصرية التي حكمت تصرفاتهم، وفي هذا التفريق طمأنة للأعراق المختلفة التي يتألف منها شعب جنوب أفريقيا، كما جذب مانديلا اهتمام العالم وحظي بدعم شعوب وحكومات وصل بها الأمر الى مقاطعة الحكم العنصري في بريتوريا وعزله، ومن هذه الحكومات بريطانيا زعيمة الكومنولث الذي تندرج فيه جنوب أفريقيا، وهولندا الوطن الأم للأفريكان الذين ناضلوا من أجل الاستقلال عن بريطانيا لكنهم أقاموا نظاماً عنصرياً يفرق بشكل حاد بينهم وبين المواطنين السود. هكذا ضغطت الأكثرية الشعبية في جنوب أفريقيا والمجتمع الدولي من أجل تفكيك النظام العنصري وإطلاق مانديلا ورفاقه من السجن والوصول الى انتخابات حرة لا تقتصر على عرق معين،. وكانت ميزة هذه الجمهورية ان رئيسها مانديلا حكم جنباً الى جنب مع نائبه دوكليرك الذي كان في وقت ما على رأس النظام العنصري وفي مقام الجلاد. ونجت جنوب أفريقيا بذلك من مصير سيئ خبرته شعوب العالم الثالث بعد الاستقلال، حين تحوّل أبطالها الى حكام انتقاميين يؤسسون حروباً أهلية أو أزمات حادة تطحن الدول الحديثة الاستقلال فتجعلها تحنّ أحياناً، ومن باب اليأس، الى عهد الاستعمار. ولد مانديلا في قرية مغيزو في منطقة ترانسكي على بعد حوالى 600 ميل جنوبجوهانسبورغ في 18 تموز يوليو 1918، واسمه الأول الحقيقي روليهلاهلا وليس نيلسون، وكان والده زعيم قومه ووارث الزعامة عن الأجداد الذين كانوا يعتبرون ملوكاً، وضمت منطقة ترانسكي الى اتحاد جنوب أفريقيا عام 1910 ففقدت عيشها التقليدي. وعاش مانديلا طفولة قلقة بعد طرد والده هندراي من منصبه كشيخ للقبيلة، ولم يعتنق الوالد المسيحية وكانت له أربع زوجات ومانديلا هو ابن للزوجة الثالثة، لكن الأب أرسله الى المدرسة التبشيرية المحلية ليتعلم. وأقام مانديلا بين المدرسة وبيت أمه أو بيوت زوجات أبيه، حتى قال لاحقاً انه في جميع مراحل حياته كان يشعر بالراحة مع النساء،"خصوصاً القويات القادرات على اقامة علاقات صداقة مجزية". تزوج مانديلا على التتابع ثلاث مرات، واشتهرت زوجته الثانية ويني، أما الثالثة فهي أرملة الرئيس الموزمبيقي الراحل واسمها غراسا ماشيل. كان مانديلا يسمع أخبار أجداده ملوك شعب التمبو، فيشعر أنه في زمن لا يعترف بالملكيات الغابرة، خصوصاً بوجود التمييز العنصري وانهيار المجتمع الزراعي التقليدي. يصف أنطوني سامبسون كاتب سيرة مانديلا منطقة ترانسكي التي شهدت ولادته بأنها"واحدة من أجمل مناطق البلاد وأكثرها فقراً، فالآفاق الشاسعة من التلال المتموجة بالعشب الأخضر الشاحب والأكواخ الدائرية المسقوفة بالقش، والرعيان الذين يسوقون قطعانهم، تقدم صورة من"العهد القديم"عن الحياة الريفية الأزلية بأبهى صورها. إلا أن هذا الجمال سطحي فحسب، فالأرض أخذت تضيق بالسكان والتربة الرقيقة متآكلة الى درجة لا يمكنها تغذية أكثر من مجموعة قليلة من الأبقار والأغنام العجفاء فيما يزرع السكان مساحات قليلة متفرقة بالذرة". اختار له معلمه في المدرسة التبشيرية اسم نيلسون، في سياق اختيار البعثات التبشيرية للتلاميذ السود أسماء أبطال انكليز مثل ويلنغتون وكيتشينر وآديلايد وفكتوريا الخ... وبعد وفاة والده عاش مانديلا في عهدة الوصي على عرش شعب التمبو الذي كان مسيحياً ممارساً وقائداً بارعاً لطالما ذكر مانديلا نصيحته بأن"القائد يجب ان يكون كالراعي يقود قطيعه من الخلف بالاقناع الماهرب. كان المجتمع القبلي الأفريقي في نظر مانديلا يحمل مسحة انسانية وديموقراطية، وتناول هذا الأمر في خطاب ألقاه عام 1962 قبل دخوله السجن:"كان المجلس القبلي ديموقراطياً الى درجة أن جميع أعضاء القبيلة كان في امكانهم المشاركة في نقاشاته: الزعيم والتابع، المقاتل والطبيب، كلهم يشارك ويسعى الى التأثير في قراراته. كان هيئة ذات وزن ونفوذ، لا يمكن اتخاذ أي خطوة مهمة في القبيلة من دون الرجوع اليها". كان مانديلا وزملاؤه من تلاميذ المدارس التبشيرية يعتنقون الأفكار الغربية في الوقت الذي يتطلعون الى استعادة حقوق شعبهم وكرامته، وفي تنقل مانديلا بين أفكار الليبرالية البريطانية والمسؤوليات التي تحمل تبعاتها في وقت مبكر حول الوصي، كان يختط بذلك لنفسه سيرة قائد ستتبلور في وقت لاحق. وحين أنهى دراساته العليا في"جامعة جنوب أفريقيا الأهلية"الخاصة بالسود كان ملماً باللغة الانكليزية والحقوق والادارة المحلية والعلوم السياسية، وأعطته الحياة الجامعية تجربة قيادية من خلال النشاط الطالبي ذي البعد السياسي، لينتقل بعدها الى جوهانسبورغالمدينة الرئيسية في البلاد، وكان طموحه العمل في المحاماة لكنه بدأ العمل كاتباً لدى محام يهودي اسمه سايدلسكي ووصفه بأنه"أول رجل أبيض عاملني معاملة البشر وهو الذي دربني كي أخدم بلدي، ثم تشارك مع محام أبيض اسمه نات بريغمان في مكتب واحد، وانطلق يعمل وينشط في السياسة التي حملته مسؤوليات كثيرة وأودت به في أحيان كثيرة الى عيش الفقراء، لكنه تابع دراسته ليحصل على اجازة في الحقوق ليحق له العمل كمحام وليس مساعدة محامين، فانتسب الى جامعة تسمح بوجود عدد محدود من الطلاب السود، وحين تخرج انغمس في حياة مدينية تستهويه السياسة وحب النساء. مشاركة مانديلا في حملة ناجحة لمقاطعات الباصات بعد رفع ثمن تذاكر الركوب، عرّفته الى المؤتمر الوطني الافريقي الذي كان تأسس عام 1912، وسيكون المؤتمر اطار نشاطه السياسي والاجتماعي، لكنه تعرّف عن كثب بواسطة أصدقاء على الحزب الشيوعي الذي كان يضم أعضاء من جميع الأعراق. وفضلاً عن الشيوعيين، تنبّه مانديلا الى الأعراق المختلفة في جنوب أفريقيا من غير السود والبيض، وأبرز هؤلاء ذوو الأصول الآسيوية، كالهنود الذين صادق منهم أعلاماً وشارك في نشاطهم الاحتجاجي الذي تميز بالأسلوب السلمي وفق منهج المهاتما غاندي الذي أقام لفترة في جنوب أفريقيا، وعمل محامياً وقاد احتجاجاً سلمياً لآلاف الهنود بشكل غير قانوني عام 1911. واستعاد هنود جنوب أفريقيا عام 1947 تجربة الاحتجاج السلمي ليواجهوا قانون"الغيتو الهندي"الذي يحظر بيع مزيد من الأراضي للهنود. كان مانديلا يشاركهم الاحتجاج ويتعلم من تجربتهم ويتخذ من بينهم أصدقاء عمره: اسماعيل مير وعزيز باهاد وأحمد كاثرادا الذي أمضى مع مانديلا في السجن 25 سنة. ووجد مانديلا في تجربة جوهر لال نهرو السياسية معلماً له حين كان يتأرجح بين الشيوعية والقومية، وهو هنا يصل الى قومية غير متشنجة وذات بعد انساني كما في قول نهرو:"ان القومية جيدة في مكانها، إلا أنّها صديق لا يمكن الاعتماد عليه ومؤرخ غير أمين. ان القومية تعمينا عن كثير من الأحداث وتشوّه الحقيقة أحياناً، خصوصاً في ما يتعلق بنا وببلدنا". كتب أنطوني سامبسون في سيرة مانديلا:"كان مانديلا أكثر برغماتية. كان حتماً دون غاندي زهداً. وقالت صديقته فاطمة مير: قال بعض الهنود انه مثل غاندي، فقلت لهم: غاندي خلع عنه ثيابه أما نيلسون فيهوى ثيابه. أعجب مانديلا بغاندي كواحد من رواد حركة التحرير الجنوب أفريقية، وصدم عند اغتياله في الهند في شباط فبراير 1948، إلاّ انه لم يكن يشاطره الرأي حول الجانب النقيّ من الصراع، وقال في ما بعد: لم أكن أعتبر اللاعنف على طريقة غاندي مبدأ ثابتاً وانما هو تكتيك يستخدم بحسب مقتضى الحال". وأتيحت لمانديلا معرفة واسعة بأفريقيا عندما كلّفه المؤتمر الوطني الأفريقي الحصول على مساعدة من بقية القارة في شكل مال وتدريب عسكري، ومعظم الدول التي زارها كانت مستقلة حديثاً عدا أثيوبيا، ولاحظ مانديلا توتر العلاقة بين القادة الأفارقة وكذلك عداء معظمهم للعرب، إذ رفضوا ادخال الشمال أفريقيين في منظمتهم"حركة الحرية الأفريقية في شرق ووسط أفريقياب Pafmeca، لكن مانديلا ضغط من أجل ادخالهم وتحسين العلاقة بين مختلف أنحاء القارة السمراء، وسرعان ما تغير اسم المنظمة ليصبح"منظمة الوحدة الأفريقية"OAU. وفي بلده عمل مانديلا في الخفاء بسبب حظر المؤتمر الوطني الأفريقي بقرار من الحكومة. أصبحت المقاومة السلمية شيئاً من شعارات البدايات، ونظّم مانديلا مع رفاقه حملات عنف لتخريب الحركة الاقتصادية في البلاد، وقد وفقت الحكومة باعتقاله وأحيل على المحاكمة بتهمة التآمر لإطاحة نظام الحكم. أثناء المحاكمة ألقى خطاباً في الدفاع عن نفسه استغرق خمس ساعات، ختمه بالقول:"كرّست حياتي لكفاح الشعب الأفريقي وحاربت هيمنة البيض بقدر ما حاربت فكرة هيمنة السود. كنت دائماً أرفع عالياً نموذج المجتمع الديموقراطي الحر، حيث الجميع يعطون فرصاً متعادلة ومنسجمة. وإذا اقتضى الأمر سأموت من أجل هذا الهدف". أثناء المحاكمة انتخب مانديلا رئيساً لاتحاد طلاب جامعة لندن، الجامعة التي لم يدخلها أبداً. كانت تلك رسالة دعم من بريطانيا نفسها ترافقت مع الدعم الأفريقي والعالمي، لكن ذلك لم يمنع الحكم عليه بالسجن مدى الحياة. وتسبب الحكم بردود شاجبة من الرأي العام العالمي، ورأت أوروبا وأميركا في مانديلا صديقاً للمستقبل تريد حكومة بريتوريا العنصرية قصف مستقبله. لكن هذه الحكومة التي اعتقدت ان ذكر مانديلا سيتلاشى بعد سجنه أو يدوم سنوات قليلة، فوجئت بأن سجنه المديد سيبلور قضية الحرية والعدالة في جنوب أفريقيا. كان سجنه في جزيرة روبن معقد اهتمام الأحرار، وبعد اطلاقه تحوّلت غرفته في السجن الى مركز سياحي، يقول مانديلا:"خلال ثلاثة قرون كانت هذه الجزيرة سجناً لكل الوطنيين المبعدين وكبار المقاومين والديموقراطيين. وإذا كان ذلك حقاً هو رأس الرجاء الصالح فإن هذا الرجاء مدين لأرواح أولئك المقاتلين ورفاقهم". في العام 1985 عرض على مانديلا اطلاقه في مقابل وقف المقاومة المسلحة، إلاّ أنه رفض العرض، وبقي في السجن حتى 11 شباط فبراير 1990، أي حوالى 27 سنة، عندما أدت الضغوط المحلية والدولية الى اطلاقه بأمر من رئيس الجمهورية فردريك دوكليرك الذي شارك مانديلا في العام 1993 جائزة نوبل للسلام. * كاتب لبناني من أسرة "الحياة"