أفاقت جنوب افريقيا مذهولة أمس، مستذكرة بدموع وصلوات وقلق أول رئيس أسود في تاريخ البلاد نلسون مانديلا الذي أمضى نحو ثلث حياته في معتقلات نظام الفصل العنصري، لكنه لم يتوانَ عن الصفح عن «جلاديه» وإنجاز مصالحة تاريخية جنّبت أمّة «قوس قزح» حرباً أهلية عرقية وألهمت العالم. وفاة مانديلا لم تشكّل مفاجأة في جنوب افريقيا، لكنها اثارت قلقاً شعبياً من احتمال أن تُؤثر سلباً في المسيرة المتعثرة أصلاً للمصالحة، وسط اضطرابات اجتماعية جعلت من طموح مانديلا الى أمّة موحدة، بعنصريها الأبيض والأسود، حلماً مبتوراً. علمت ابنتا مانديلا، زيندزي وزيناني، بنبأ وفاته أثناء حضورهما العرض الأول لفيلم عن حياته في لندن، عنوانه «السير الطويل نحو الحرية»، الذي دُعي إليه الأمير وليام وزوجته كيت. وأوردت صحيفة «ديلي ميرور» إن الابنتين أصرّتا، لدى إبلاغهما النبأ، على متابعة عرض الفيلم، مضيفة أن منتج الفيلم، أنانت سينغ، صعد إلى خشبة المسرح بعد نهاية الفيلم ليعلن نبأ وفاة مانديلا، وسط ذهول الحضور. وأشارت إلى أن الأمير وليام وزوجته كيت كانا غادرا صالة العرض قبل لحظات، بعد إبلاغهما نبأ وفاة مانديلا التي اعتبره الأمير وليام «شخصية ملهمة». ورأت ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية أن إرث مانديلا «هو جنوب أفريقيا يعمها السلام»، معربة عن «حزن عميق لوفاته». أما ولي العهد البريطاني الأمير تشارلز فاعتبر الراحل «تجسيداً للشجاعة والمصالحة»، لافتاً إلى أن وفاته «ستترك فراعاً هائلاً». ووصف رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كامرون مانديلا بأنه «بطل زماننا»، موعزاً بتنكيس العلم فوق مقره الرسمي. وكان رئيس جنوب أفريقيا جاكوب زوما أعلن على التلفزيون مباشرة وفاة الزعيم الأسطوري، قائلاً: «حبيبنا نلسون مانديلا، الرئيس المؤسس لأمتنا الديموقراطية، فارقنا. توفي بسلام محوطاً بعائلته. فقدت أمتنا أعظم أبنائها. لنعبّر عن امتناننا العميق لحياة عاشها في خدمة الناس في هذا البلد، وفي خدمة الإنسانية». وأمر بتنكيس الإعلام في البلاد حتى تشييعه في جنازة دولة في العاشر من الشهر الجاري في ملعب لكرة القدم في سويتو قرب جوهانسبورغ، قبل دفنه في الخامس عشر من الشهر في مسقط رأسه كونو في مقاطعة الكاب الشرقيةجنوب البلاد. وسيُسجّى جثمان مانديلا في مقرّ الرئاسة في بريتوريا، بين 11 و13 الشهر الجاري. «مثالاً عملاقاً للإنسانية» وتوفي مانديلا (95 سنة) بعد إصابته بالتهاب رئوي متكرر، أوجب إدخاله مستشفى 4 مرات منذ كانون الأول (ديسمبر) 2012. ويُرجّح ارتباط مشكلاته الصحية بعواقب مرض السل الذي أُصيب به خلال احتجازه في جزيرة روبن آيلند حيث قضى 18 من 27 سنة قضاها في سجون نظام الفصل العنصري. وكان مانديلا، مع أعضاء بارزين آخرين في حزب «المؤتمر الوطني الأفريقي»، يكسرون صخوراً في محجر، بين 8 و10 ساعات يومياً 5 أيام في الأسبوع. واعتبر حزب «المؤتمر الوطني الأفريقي» الحاكم أن البلاد خسرت «مثالاً عملاقاً للإنسانية والمساواة والعدل والسلام»، لافتاً إلى أن «حياة (مانديلا) تعطينا الشجاعة للمضي من أجل التنمية والتقدم نحو إنهاء الجوع والفقر». أما فريدريك دي كليرك، آخر رئيس أبيض لجنوب أفريقيا والذي أطلق مانديلا من السجن عام 1990 ثم تفاوض معه على نهاية نظام الفصل العنصري، فوصف الراحل بأنه كان «موحداً عظيماً ورجلاً فريداً جداً»، معتبراً أن تركيزه «على المصالحة كان أكبر أرث تركه»، إذ تفهّم مخاوف الأقلية البيضاء أثناء الانتقال إلى الديموقراطية. دي كليرك الذي تقاسم ومانديلا جائزة نوبل للسلام عام 1993، كان أحد نائبين للرئيس في حكومة الراحل بعد فوز «المؤتمر الوطني الأفريقي» في انتخابات 1994. مخاوف وأشار الأسقف الأنغليكاني ديزموند توتو (82 سنة)، أحد أبطال النضال ضد الفصل العنصري، إلى أن مانديلا «علّمنا على مدى 24 سنة (منذ خروجه من السجن) كيف نعيش معاً ونؤمن في أنفسنا وفي جميع الآخرين». وأضاف: «خرج من السجن شخصاً أعظم بكثير مما كان لدى دخوله، شخصاً يتحلى برحمة كبيرة حتى تجاه مضطهديه. تعلّم كيف يفهم هفوات البشر وضعفهم». ورأى أن «التلميح إلى أن جنوب أفريقيا يمكن أن تشتعل (بعد وفاة مانديلا) كما تكهن بعضهم، يطعن في الشعب الجنوب أفريقي وفي إرث» الراحل، وتابع: «لنقدّم له هدية: جنوب أفريقيا متحدة». لكن ثمة مواطنين يخشون على مستقبل بلادهم بعد غياب مانديلا، من تفاقم توتر عرقي واضطرابات عمالية دامية واحتجاجات متصاعدة على ضعف الخدمات والفقر والجريمة والبطالة وفضائح فساد تلاحق حكم زوما، ما يجعل جنوب أفريقيا، على رغم كونها أضخم اقتصاد في القارة السوداء، إحدى أكثر دول العالم افتقاراً الى المساواة وبعيدة عن نموذج «أمّة قوس قزح» التي حلم بها مانديلا. وقالت شارون كويبكا: «الامور لن تسير في شكل جيد. أعتقد بأن البلاد ستصبح اكثر عنصرية. الناس سينقلب بعضهم على بعض ويطاردون الأجانب. مانديلا الوحيد الذي كان قادراً على جمع الكل». وتجمّع مئات قرب منزل مانديلا في جوهانسبورغ وأمام منزله السابق في سويتو، مرددين أناشيد ضد الفصل العنصري وأغاني تشيد ب «ماديبا» كما هو معروف باسمه القبلي. مسيرته السياسية مانديلا الذي خرج من السجن في 11 شباط (فبراير) 1990، بات عام 1994 أول رئيس أسود لجنوب أفريقيا، في انتخابات تاريخية متعددة الأعراق، مطلقاً مصالحة وطنية، إذ قال لدى توليه منصبه: «ندخل في عهد لبناء مجتمع يكون فيه جميع مواطني جنوب أفريقيا، السود والبيض على السواء، قادرين على السير برؤوس شامخة من دون أن يعتصر قلوبهم أي خوف، مطمئنين الى حقهم الثابت بالكرامة الانسانية - أمة قوس قزح بسلام مع نفسها والعالم». أبى مانديلا أن يحكم أكثر من ولاية واحدة من 5 سنوات، وتقاعد عام 1999 مسلّماً السلطة الى زعماء أكثر شباباً وأكثر تأهيلاً لإدارة اقتصاد حديث، ومكرساً وقته لمهمات وساطة في نزاعات، خصوصاً الحرب في بوروندي، ولمكافحة مرض الإيدز، لا سيّما بعد وفاة ابنه بالمرض عام 2005. مانديلا المولود في 18 تموز (يوليو) 1918، أسس الرابطة الشبابية في «المؤتمر الوطني الأفريقي»، ثم تسلّم قيادة الحزب في مواجهة نظام أرسى الفصل العنصري عام 1948. وبعد حظر الحزب عام 1960، انتقل الى العمل السري مؤسساً جناحاً مسلحاً للحزب عام 1961 صُنِّف إرهابياً في الغرب، ثم خضع لتدريبات عسكرية في الجزائر وأثيوبيا. اعتُقل عام 1962 وحُكم عليه عام 1964 بالسجن المؤبد، خلال ما عُرف ب «محاكمة ريفونيا» حيث ألقى كلمة تحوّلت بياناً رسمياً لحركة مناهضة نظام الفصل العنصري، قال فيها: «طيلة حياتي، كرّست نفسي لهذا الكفاح للشعب الأفريقي. حاربت سيطرة البيض وسيطرة السود. دافعت عن مُثل المجتمع الديموقراطي والحر. هذه مُثل أنا مستعد للموت في سبيلها». وعام 2004، أعلن مانديلا أنه سيخفف نشاطاته العامة ليتمتع ب «حياة أكثر هدوءاً» مع عائلته وأصدقائه، علماً أنه تزوّج عام 1998 من غراسا ماشيل، أرملة الرئيس الموزمبيقي سامورا ماشيل، إثر طلاقه من ويني ماديكيزيلا. لديه ثلاث بنات. ردود فعل الرئيس الأميركي باراك اوباما الذي أمر بتنكيس الأعلام في الولاياتالمتحدة، قال إن مانديلا «حقق أكثر مما يمكن توقعه من أي رجل»، مضيفاً: «أنا واحد من ملايين استمدوا الإلهام من حياة نلسون مانديلا... ولا يمكنني تصوّر حياتي الخاصة بلا النموذج الذي قدّمه». واعتبر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن الراحل «كان أحد أبرز السياسيين في عصرنا»، فيما أشاد الرئيس الصيني شي جينبينغ ب «مساهمته الاستثنائية لتطوير الإنسانية»، كما شبّهه رئيس الوزراء الهندي مانموهان سينغ بالمهاتما غاندي معلناً حداداً وطنياً لخمسة أيام. وأعلن الدالاي لاما انه فقد برحيل مانديلا «صديقاً غالياً»، كما رأت المستشارة الألمانية أنغيلا مركل أن اسمه «سيبقى مرتبطاً بالنضال ضد الاضطهاد»، فيما أشاد الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند ب «المقاوم الاستثنائي» و«المقاتل الرائع» الذي «جسّد شعب جنوب أفريقيا وأساس وحدة أفريقيا بأكملها وعزتها». واعتبر رئيس المفوضية الأوروبية جوزيه مانويل باروسو أن العالم «يبكي وفاة أحد اعظم الشخصيات في عصرنا»، فيما اعتبر الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون أن مانديلا كان «مصدر إلهام»، وزاد: «علينا أن نستلهم من حكمته وتصميمه والتزامه، لنسعى إلى جعل العالم أفضل». وأعرب أعضاء مجلس الأمن عن «تقديرهم الشديد للصفات الأخلاقية والسياسية الاستثنائية» للراحل الذي رأى البابا فرنسيس انه «رسم جنوب افريقيا جديدة». ووجّه الرئيس الإيراني حسن روحاني برقية تعزية إلى زوما، ووصف مانديلا بأنه «شخصية مرموقة تمكّنت من خلال جمع الأخلاف والسياسة، من إذاقة سجانيه بعد الانتصار، طعم التسامح، وترك ذكرى قلّ نظيرها للبشرية». ووصفت الرئاسة المصرية مانديلا بأنه «مناضل أفريقي عظيم»، مشيرة إلى أنه سيبقى «في قلوب المصريين وعقولهم، أحد أبرز رموز الكفاح والنضال الوطني في عالمنا المعاصر». واعتبر الرئيس الفلسطيني محمود عباس الراحل «فقيداً لشعوب العالم أجمع»، مضيفاً: «لن ننسى مقولته التاريخية أن ثورة جنوب أفريقيا لن تكتمل أهدافها قبل نيل الشعب الفلسطيني حريته». أما رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو فاعتبر مانديلا «قدوة وزعيماً أخلاقياً».