صورة الغرب في العالم العربي - والعكس وتحديداً أميركا الواجهة - صور ذهنية متراجعة، تصل اليوم إلى أعلى مراحل تشويهها، بين شعوب الغرب والشرق - المتمثل هنا في العالم العربي المسلم - وهي نتيجة صنعتها أحداث مترابطة ومذهلة ومزلزلة سبقت أحداث 11 - 9 وتسابقت بسرعة في أعقابها مع تطور وتيرة الرد الأميركي، في ما أصبح يعرف بالحرب على الإرهاب، والتفجيرات الأخرى التي لحقت بأجزاء من أوروبا، ما جعلها هي الأخرى تعيد برمجة الصورة الذهنية عن العرب والمسلمين حتى مع أولئك الذين ظلوا لسنوات يعيشون داخلها ويحملون هويتها الوطنية. ومع تورط عدد منهم في أعمال عنف وإرهاب. صورة أصبحت بفعل أبنائه العنيف، صورة الإرهابي المرعب القابل لممارسة القتل في أية لحظة وتفجير نفسه في أية مناسبة. تحولت معها الصور الذهنية المتبادلة إلى أزمة حقيقية في ذهنية الشعوب واحتقان على الضفتين، كما ساعد في تكثيفها إعلام كرس مساحة زمنية طويلة لصور القتل أو التفجير أو المعارك، التي انتقلت إلى الدول العربية، وأصبحت معها شخصية الإرهابي هي السائدة في الغرب عند الحديث عن العربي، فيما أصبحت قصص المضايقات التي تتعرض لها الجالية العربية في الغرب جزءاً من القصص الإخبارية العربية، تضاف إليها صورة الجندي الزائر أو المحتل أو المتحالف. على رغم تضرر دول عربية وإسلامية من أعمال تفجير وعنف مشابهة، كما حدث في السعودية، وتعرض شخصيات عامة ثقافية وإعلامية وليبرالية للتهديد بسبب مواجهتها للإرهاب، إلا ان الصورة الذهنية السائدة للعربي والمسلم صورة متداخلة مع العنف والرغبة في القتل في تعميم مطلق. هذا التأزم أعاد إلى المنطقة الإعلام الغربي الحكومي الموجّه، الذي يأتي هذه المرة عبر الإعلام الفضائي، وبأسلوب متشابه. وان كان الإعلام اقدر على إزالة الكثير من التماس الحضاري الحاد، وتخفيف الاحتقان الديني، ورفع قيمة التسامح في مواجهة التطرف، ولأنه أيضاً الأقدر على تقليص الهوة بين الحضارات العالمية، ولو على المستوى الإنساني إضافة إلى القدرة على الوصول والتأثير، إلا أنه كان صاحب الدور الأقل حتى الساعة في خلق لغة تفاهم حضاري إنساني ممكن، وتخفيف الاحتقان لا تأجيجه. وفي الغالب كان دوره يقتصر على التبرير أو الاستنكار. وهو ما فشل الإعلام الموجّه للمنطقة في نسخته الجديدة في تحقيقه. إن مراجعة الساحة الإعلامية في العالم العربي أو تلك الموجهة لها، أو المرسلة منه باتجاه الآخر الغربي، تعطي رؤية أوضح لاحتمالات توسع الهوة لا تضييقها. الحقيقة ان الممارسات الإعلامية الغربية القادمة الى المنطقة العربية عبر القنوات الفضائية الموجهة للعالم العربي، والتي ما زالت تابعة للحكومات وممولة بالكامل منها بشكل مباشر في الغالب، هي اقرب للإعلام الموجّه في مرحلة تاريخية سابقة، إذ أن معالجتها الإعلامية متواضعة للأحداث، كما أن أسلوب نقل الرسائل ووجهات النظر التي تعبر عنها تقليدي ومباشر. بل إن القنوات العربية الفضائية الجديدة التي أصبحت تدار بالكامل من القطاع الخاص، طوّرت أسلوب المعالجة الإعلامية التقليدية، وأظهرت تفوقها في مقابل القنوات الفضائية الغربية القادمة الى العالم العربي. وهو ما يعود إلى ارتباطها الحكومي المباشر، والسبب هنا مفهوم جداً، فالمؤسسات الإعلامية الخاصة في الغرب هي مؤسسات تعمل ضمن سوق تجارية، وعليها أن تربح وتتفادى الخسارة وفقاً لمعايير السوق، إن أرادت المحافظة على مهنيتها واستقلاليتها، أو تقديم نفسها بهذه الصورة. وبما ان السوق العربية ليست مغرية لها إعلانياً بشكل كبير، فقد تركت المهمة للحكومات لتقدم إعلاماً موجهاً لم يستطع ان يقنع المشاهد العربي بجديته أو قيمته. ويركز على الاهتمام الإخباري المباشر والتقليدي بشكل كامل. لذا نجد ان تلك القنوات تنحرف كثيراً عن ممارسة المهارة الإعلامية الذكية، وتكتفي بتقديم صورة البلد الصادرة عنه بالطريقة ذاتها التي تقدم بها القنوات المحلية العربية دولها، ومن ثم التركيز على اللحمة الوطنية، الأمر الذي يظهر ? مثلاً - بلداً متنوعاً بحجم أميركا، وكأنه قطيع واحد، يشبه المجتمعات العربية، في اتفاقه التام مع السياسات الخارجية والداخلية التي تتخذها الإدارة الأميركية، من دون إظهار للجدل السياسي الديموقراطي الدائر في الإعلام الأميركي، وهو ما تفعله قناة"الحرة"كنموذج. في الوقت ذاته، تقدم القنوات الأوروبية الأخرى صورة اقرب إلى النمطية والتقليدية في عرض أخبار دول الاتحاد الأوروبي من دون إثارة أو تقديم لجدل سياسي مستحق حول الاتحاد الأوروبي- مثلاً - مكتفية بإبراز واضح للسياسات الأوروبية العامة والدولة الصادرة منه بشكل خاص، مع إتاحة مجال محدود جداً ومتواضع للحديث عن الجالية العربية في بلدانها، والحديث إليهم قناة"فرانس24"،"دوتشي فيليه"الالمانية نموذجاً. وفيما تستعد قناة ال"بي بي سي"العربية للظهور مرة أخرى بعد توقف دام عشر سنوات، فان سقف التوقعات لها بتحقيق اختراق للمشاهد العربي هو توقع متواضع، فال"بي بي سي"التي تحصل على تمويلها من دافعي الضرائب، لديها الإرث القديم في تقاليدها وأعرافها المهنية، تقاليد ستحد من تطور لغتها أو معالجتها لمصلحة الوعي العربي الجديد، لنأخذ راديو البي بي سي العربي العتيق نموذجاً. على الاتجاه المقابل وفيما القنوات العربية الخاصة تحقق حضوراً مميزاً أمام المشاهد العربي، إلا انها مشغولة بملاحقة أخبار الكوارث والمصائب التي تحفل منطقتنا بسيل كبير منها، فيما قنوات الترفيه تسير في اتجاه واحد ومتشابه إلى حد كبير جداً. أما القنوات العربية التي تنقل برامج وأخباراً لمحطات غربية تواجه حاجز اللغة النفسية، والتكرار أحياناً في أكثر من قناة، وتقدم المادة والأخبار وبرامج الترفيه، المعدة للمشاهد الأميركي أو الغربي ممن يحمل خلفية كاملة عن الأحداث أو عن الثقافة الغربية. أما القنوات العربية التي تبث باللغة الانكليزية، فهي تواجه عجزاً ظاهراً، إما بسبب ضعف حاد في مواردها أو ضعف في فهم جمهورها وتحديده، وهي الأخرى من دون استثناء ممولة بالكامل من حكومات وتتبع مباشرة لوزارات إعلام، كما أن تركيزها في الغالب موجه الى الجمهور الغربي ? الأجنبي - في دولها، وهي التي كانت منذ تأسيسها قاصرة عن الوصول إليه، هذا قبل عصر الفضائيات، أما بعده فيبدو انها نسيت لتبقى شاهداً فقط القناة الثانية السعودية - قناة البحرين - النيل المصرية الانكليزية. فيما تجري محاولات أخرى في دبي لتقديم قنوات تتحدث الانكليزية، لكن من الواضح أنها ستركز على الأجنبي المقيم أو الزائر لدبي، الإمارة التي يشكل فيها غير الناطقين بالعربية غالبية مطلقة. وتظل قناة"الجزيرة"التي استثمرت فيها الحكومة القطرية مبالغ كبيرة من اجل ان تصل إلى الغرب، تجاهد في وضع نفسها على خريطة الإعلام الدولي الناطق باللغة الانكليزية، الذي يبدو ممتلئاً بخيارات إقليمية ودولية قادرة. المؤكد في كل الحالات والاتجاهات أن الحكومات عاجزة عن تقديم إعلام مغر وناجح متى ما تولت إدارته مباشرة. لذا يتم تجاهل قيمة المحطات الفضائية في تحقيق تأثير مهم نحو تغيير أو تحسين الصورة المتبادلة بين هنا وهناك، وهو تجاهل تعود أسبابه للوضع الذي عليه هذه القنوات وعجزها عن إقناع المتلقي بجدية الطرح الذي تقدمه، أو ضعف الثقة في الكيفية التي هي عليها والقيمة التي تقدمها. الأجدر عند الرغبة في تطوير صورة ذهنية لبلد مثل اميركا، التي لديها اكبر منصب معلن في وزارة الخارجية لموظفة رفيعة معنية بهذا الجانب وكوكيلة لوزارة الخارجية، الأجدر ان تبدأ من وسائل إعلامها، وما تطرحه الوسائل الإعلامية التابعة لها والموجهة للعالم العربي تحديداً، وان تعمل على تقديم صورة حقيقية لأميركا من الداخل، صورة من شأنها ان تقدم للمشاهد العربي النقاشات والجدل والاختلاف وحتى التباين داخل أميركا، على الصعيد السياسي والاجتماعي والثقافي الحضاري. وان تكون الأخبار معبأة بهذا النوع من الواقع الأميركي الذي يشكل صلب حضارتها. حتى يدرك المشاهد العربي الموجهة له هذه الوسائل، التي تعتبر لا شيء من دون متابعته - يدرك ان في أميركا صوراً أخرى، غير صورة الرئيس بوش، والمتحدث باسم الخارجية أو البنتاغون. وان تبرز قنوات أوروبا العربية نماذج لعرب متسامحين وناجحين في مجتمعات استوطنوا فيها، وحققوا بعض الانجاز الشخصي على أرضهم الجديدة. عندها قد يجد المواطن العربي في تقديم صورة الواقع الداخلي جرعة وعي مهم بواقع الثقافة الغربية الحديثة والمتطورة، وجرعة علاقات عامة أصيلة، تعجز أي ماكينة علاقات عامة عن إحداث التأثير الذي قد يحدثه نقل الحقائق الداخلية، كما تفعل القنوات التلفزيونية المحلية في أوروبا وأميركا. وهو ما سيسهم بالمناسبة في رفع سقف الحريات الإعلامية في العالم العربي، الذي يعتبر سقفاً متواضعاً. الحقيقة أننا في العالم العربي نحتاج إلى حملة علاقات عامة ضخمة، وجهد تنموي وتنويري وتوعوي شاق لمعالجة مشكلاتنا الداخلية، وفعل العنف الناتج من ثقافتنا المختطفة والمشوهة، ولتبق القنوات التلفزيونية - تحديداً التابعة لوزارات الإعلام العربية - تجمل الواقع العربي الواقع السياسي والاقتصادي والثقافي وحتى الإعلامي، حيث واقع المجتمعات العربية، الواقع المتخلف في ترتيب التنمية الإنسانية على الكرة الأرضية. نحن - العرب - من يحتاج إلى حملة علاقات عامة وإعلام بالطريقة ذاتها التي يمارسها اليوم الإعلام الغربي القادم للمنطقة العربية، ولكن هل هذا يكفي؟ * إعلامي سعودي.