ارتفع منسوب التوتر في العلاقات الروسية- الإسرائيلية المأزومة أصلا منذ نحو عامين، إثر توجيه تل أبيب أصابع الاتهام إلى موسكو وتحميلها عشية قيام الطائرات الإسرائيلية بالتحليق فوق الأراضي السورية، مسؤولية ما أسمته"تأجيج التوتر العسكري"بينها وبين دمشق، والتسبب، تاليا، في"حرب كان ممكنا أن تشتعل في الشرق الأوسط برمته"، وذلك بهدف بيع سورية مزيدا من الأسلحة الروسية. وهذا فضلا عن سعي موسكو، وفق ما يشير تقرير أمني إسرائيلي صادر عن"المشروع العسكري في معهد أبحاث الأمن القومي"، إلى تعزيز القدرات العسكرية السورية وعقد صفقات أسلحة بحرية وجوية، وتوثيق العلاقة مع دمشق، لضمان تعزيز مكانتها في الشرق الأوسط وحوض البحر المتوسط من خلال تفعيل أسطولها البحري في ميناء طرطوس، وذلك على الرغم من أن مصلحة موسكو، حسب ما يضيف التقرير نفسه، تكمن في عدم دخول دمشق في أي صراع من شأنه المساس بأهداف الأسطول البحري الروسي. وذلك بخلاف التوقعات بأن العلاقة بين دمشقوإيران و"حزب الله"قد تورط سورية بصراعات تندرج في إطار مصالح الطرفين الأخيرين! ما وراء الأكمة الذي قاد إلى هذه الحال يتعلق بالتوتر المتدحرج بين روسيا والولايات المتحدة منذ غزو الأخيرة أفغانستان، ومن ثم العراق، وإصرارها على تجاوز السياسة والمعايير الدولية في جميع الميادين في العالم، تحت عباءة"محاربة الإرهاب"، وذلك قبل التوجه نحو نشر منظومة الدرع الصاروخي في أوروبا الشرقية، وما عناه ذلك من تهديد للأمن القومي الروسي الذي تحاول موسكو تأمينه عبر سلسلة من الخطوات، ذات الطابع العسكري والاستراتيجي، والتي كان آخرها الإعلان، للمرة الثانية، عن نشر صواريخ عابرة للقارات ذاتية الدفع في كانون الأول ديسمبر المقبل في إطار برنامج الرئيس بوتين لتحديث القدرات الدفاعية النووية، وتأكيد رئيس الأركان المسلحة الروسية الجنرال يوري بالويفسكي أن بلاده تمتلك في الوقت الحاضر، وستبقى تمتلك في المستقبل،"أقوى سلاح في العالم"من شأنه أن"يضمن السلام في العالم لعقود من السنين". ولأن إسرائيل، الدولة الوظيفية والقاعدة الأهم للولايات المتحدة في المنطقة والعالم، فقدت معظم هوامش التحرك المستقل على إيقاع تعمَق المأزق الأميركي في العراق، وباتت أداة تنفيذية خالصة لمشروع واشنطن الشرق أوسطي في المنطقة، وهو ما ظهّره عدوان تموز يوليو العام الماضي على لبنان، فإن من المنطقي أن يجد التوتر الروسي- الأميركي صداه في تل أبيب، لا سيما وأن العالم، وفي القلب منه منطقتنا العربية، يعيش مخاض تحولات كبرى من شأنها تغيير شكل وطبيعة النظام العالمي، وبالتالي لا مجال إطلاقا لأي نوع من الاستقلالية الإسرائيلية حيال ما يجري، أو اتخاذ مسافة من التوجهات والسياسات الأميركية. والمفارقة الملفتة، في هذا السياق، هي محاولة بعض الأوساط السياسية والإعلامية في تل أبيب، ومن بينهم المعلق في صحيفة"معاريف"غاد شمرون، استنساخ التاريخ والتذكير بالادعاءات الإسرائيلية حول تورط الاتحاد السوفياتي السابق باندلاع حرب حزيران يونيو 1967"عندما نقلت الاستخبارات السوفياتية في نيسان/ابريل من العام ذاته معلومات لدمشق تفيد بأن إسرائيل حشدت قوات كبيرة على حدودها معها وأنها تعتزم شن حرب عليها"، والزعم بأن هذه التقارير"لم تكن صحيحة البتة"وأن إسرائيل"بذلت مساع حثيثة لإقناع موسكو بأنها لا تخطط لأي حرب دون أن تلق آذاناً صاغية في الكرملين بل مهدت لحرب حزيران". الزاوية الأخرى التي يمكن النظر عبرها إلى التوتر الحاصل في العلاقات الروسية- الإسرائيلية، تتصل برزمة من العناوين ذات الصلة بمنظار علاقات موسكوبواشنطن، لعل أهمها راهنا مستوى التعاون المتطور بين كل من موسكوودمشق، لا سيما على الصعيد العسكري، حيث تجاوزت روسيا مرحلة الاستجابة للضغوط الأميركية، والتي كانت قد أثمرت عندما علقت موسكو نهاية العام 2004 بعض صفقات الأسلحة الروسية لسورية، مثل قذائف"اسكندر E"أرض- جو العالية الدقة، وقذائف"Igla SA- 18s"، وبدأت صفحة جديدة من العلاقات، وخاصة بعد زيارة الرئيس بشار الأسد إلى موسكو أوائل العام 2005، وقيام موسكو بإسقاط 37 في المئة من ديون سورية لدى روسيا والتي تبلغ 13 بليون دولار. ويزعم آخر التقارير الإسرائيلية المتعلقة بما تسميه تل أبيب"التسلح السوري"، والصادر عن"المشروع العسكري في معهد أبحاث الأمن القومي"، انه بعد الحرب على لبنان حصلت دمشق على كمية كبيرة من صواريخ مضادة للدبابات من نوع"كورنيت إي"و"ميتيس ام"، إضافة إلى الصواريخ الروسية المتطورة من نوع"كريزانتيما"التي تتيح للجيش السوري الدفاع من مدى بعيد أمام مدفعيات ومركبات عسكرية مصفحة وضد أهداف موجهة للأبنية. كما أشار التقرير إلى أن سورية ركَزت، في مجال الدفاع الجوي، على الأجهزة المتنقلة، فضلا عن بدئها بتطوير سلاح البحرية بما يتيح له إصابة سفن معادية بعيدة جدا عن شواطئها، وتطوير صواريخ"سكاد"وصواريخ"غراد"القصيرة المدى، والتزود بصواريخ من نوع"سكاد دي"و"سكاد سي". العنوان الآخر الذي يبرز بقوة عند التطرق لعلاقات موسكو بتل أبيب، يتصل بالتعاون الروسي- الإيراني، حيث بدا أن الاستجابة الروسية للضغوط الإسرائيلية في هذا المضمار أقل من المتوقع بكثير، وذلك على الرغم من قوة العلاقات الاقتصادية بين موسكو وتل أبيب، حيث بلغ حجم التجارة المباشرة بين البلدين الآن حوالى 1.5 بليون دولار، ونحو بليون دولار في صفقات الطاقة، كما توجد مشروعات مشتركة بين الروس والإسرائيليين في الصناعات الثقيلة والطيران والطاقة والطب، وعلى الرغم كذلك من التعاون المتطور بين الجانبين في مجال ما يسمى"مكافحة الإرهاب"بعد أن ارتفعت وتيرة هذا التعاون منذ 2004 على خلفية الهجمات التي تعرضت لها بعض المؤسسات الروسية على يد المقاتلين الشيشانيين، ومبادرة تل أبيب إلى مساعدة موسكو في هذا المضمار، ناهيك عن تأثير هجرة نحو مليون روسي إلى إسرائيل منذ 1989، وخلقهم جسرا طبيعيا للتجارة والتواصل بين البلدين. ولعل العناوين الأكثر أهمية في الخلافات المتصلة بإيران هي تلك المتعلقة بالقلق الإسرائيلي من الدعم الروسي المستمر لبرامج إيران النووية، والذي يعتبره الإسرائيليون بمثابة تهديد لأمنهم القومي، وكذلك من التعاون المنتظر بين موسكووطهران في مجالات مختلفة أخرى كعقد صفقات تسلح بين الجانبين، تشمل وفق صحيفة"فريميا نوفيستى"بيع طهران طائرات Tu 204 وأقمار صناعية للاتصالات، ولعب دور فعال، من قبل الشركات الروسية، في مشروعات النفط والغاز في إيران . إلى جانب هذه القضايا الرئيسية، ثمة عناوين فرعية إضافية لعل أهمها رفض موسكو وضع حماس"و"حزب الله"على قائمة روسيا للمنظمات الإرهابية، وإهمال الكرملين، وفق المسؤولين الإسرائيليين، لما يسمى"تنامي المشاعر المعادية للسامية"في روسيا، في مقابل السعي إلى اتخاذ خطوات تهدف إلى"تخفيف الضغوط على 20 مليون مسلم"، حيث اتضح ذلك، ودائما حسب الإسرائيليين، عندما قام الرئيس بوتين بإغلاق صحيفتين روسيتين قامتا بنشر بعض الصور المسيئة لنبي الإسلام قبل أيام فقط من زيارة قادة حركة"حماس"لموسكو، وهو ما دفع بعض الخبراء الإسرائيليين في مجال الدفاع إلى الحديث عن"أهداف روسية غير معلنة في المنطقة"في مرحلة ما بعد الإمبراطورية تتمحور حول إمكانية عودة روسيا مرة أخرى إلى السياسات السوفياتية. ودليل ذلك، حسب الخبراء ذاتهم، قيام المسؤولين الروس، وبشكل دائم، بإبداء الاعتراض على السياسات الإسرائيلية، وتوجيه الإدانة لتل أبيب داخل الأممالمتحدة بسبب الاعتداءات على الأراضي الفلسطينية المحتلة، والاحتجاج على التهديدات الإسرائيلية ضد إيران وسورية، ناهيك عن امتعاض السلطات الروسية من عدم تجاوب سلطات تل أبيب مع مطالبة موسكو بتسليمها بعض أعضاء المافيات ورجال الأعمال الأثرياء الذين يمتلكون جنسية مزدوجة إسرائيلية- روسية ويستثمرون مئات ملايين الدولارات في إسرائيل. على قاعدة هذه الخلفية التي حكمت العلاقات الإسرائيلية- الروسية خلال السنوات الأخيرة، يمكن فهم مغزى توقيت وطبيعة الاتهامات التي صدرت عن رئيس القسم السياسي والأمني في وزارة الحرب الإسرائيلية عاموس غلعاد ضد موسكو، فإسرائيل التي خرجت من عدوان تموز 2006 على لبنان مثخنة بالجراح، تحاول، وتحت عباءة استراتيجية بوش الفاشلة ذاتها، إعادة الاعتبار لجيشها المهزوم ومجتمعها القلق الذي أعاد إنتاج رزمة الهواجس الوجودية، ومدخلها إلى ذلك رفع وتيرة التصعيد ضد سورية وإضعاف دورها في معادلة الصراع في المنطقة، وإعادة خلط الأوراق لإخراج السياسة الأميركي- الإسرائيلية المأزومة من مأزقها، وأحد العناوين الرئيسية لذلك هو الضغط على موسكو واستنساخ تجربة العام 1967، المتصلة باتهام روسيا بخلق حالة من التوتر الذي يفضي إلى الحرب. * كاتب فلسطيني.