صدرت القرارات العليا ولا يمكن الرجوع عنها مهما كانت الأسباب أو النتائج. انتشرت فرق البحث الجنائي في كل مكان. رأى الناس كلاب الحراسة الكبيرة تمشي فرادى وجماعات. وزعت المنظمات والجمعيات الأهلية بشكل سري خرائط بأكثر الأماكن خطورة. أصدرت وزارة التعليم قرارها بأن تؤجل الدراسة لمدة أسبوع. صار خروج الناس يتم بتصريح من وزارة الداخلية، إذ يجب الاتصال أولاً على الرقم المجاني الذي وفرته الوزارة للجمهور. ثم ترسل الوزارة لك أحد العاملين ليرافقك في الطريق الذي ستذهب فيه. أما حالات الطوارئ فتشمل المستشفيات والمصارف، ويستثنى من القرار رجال الأعمال والقضاة والصحافيون والراقصات ورجال الأمن وكل من يتعدى دخله ألفي جنيه شهرياً. ظن البعض أن كل هذا حدث بسب"أنفلونزا الطيور"، وسمع الآخرون إشاعات تقول إن ذلك قد يكون بسبب تلوث المياه أو بسبب حالات الموت المفاجئ. وعلى رأس كل ساعة يذيع التلفزيون موجزاً لأهم الأنباء وعمليات القبض على المواطنين التي تتم بكل حسم وقوة. حاصرت قوات الأمن المناطق العشوائية والحارات والأزقة. وتكونت جماعات من المتعاونين مع الأجهزة الأمنية تبلّغ عن"أعداء الوطن"، ثم انتشرت فرق مسلحة يموّلها الأمن، تتكون كل فرقة من أربعة أفراد للقضاء على المشتبه بهم. بدأت الحكاية بمناور المنازل، ثم بيوت البوّابين، ثم تطورت على الأسطح بحثاً عن"لصوص القنوات المشفرة"أولئك الذين يسرقون أصحاب القنوات الفضائية ويمدون كابلات باشتراك شهري يبدأ من 20 جنيهاً للباقة. ولما رفع أصحاب القنوات قضية تلو الأخرى، كان من نتيجة ذلك حرمان البلد من توقيع ملحق منظمة"الغات"و"التجارة الدولية"و"صندوق النقد الدولي"والجهات المعنية بحقوق الملكية الفكرية. قررت الحكومة القضاء على هؤلاء اللصوص فاشتهرت القضية باسم"لصوص القنوات المشفرة"في المدونات، والصحف المستقلة، وقنوات الأخبار. اكتشفت الحكومة أنه كلما قُبض على مجموعة من هؤلاء تعود الكابلات مرة أخرى في اليوم التالي وبعدد أكبر. وهذا جعلها تعيّن حراسة على كل منطقة، تقوم بنزع الكابلات. ثم تطور الأمر إلى مناوشات بين الحكومة واللصوص. ثم إلى تعارف حقيقي بين الحكومة وسكان المناطق العشوائية، لأن سكان المناطق الراقية كلهم مشتركون بشكل شرعي، ويجددون"الكارت الذكي"بانتظام. توقع الكثر من علماء الاجتماع والمحللين وقوع تصادم بين سكان المناطق العشوائية والحكومة لأن الأمور راحت تسير من سيئ إلى أسوأ. إلا أن أحداً منهم لم يتوقع أن تصير مشكلة هؤلاء اللصوص القشّة التي قسمت ظهر البعير."هل يمكن احتمال الحياة من دون هذه الكابلات التي تجعلك تعرف كل أحوال العالم بعشرين جنيهاً؟". هكذا قال أحد المواطنين قبل اعتقاله في حوار مع مذيعة تلفزيونية على قناة أرضية. الحكومة شعرت بأن هذا الموضوع يمس هيبتها وانه لا يمكنها التراجع الآن عن قراراتها الحاسمة. صورت القنوات الفضائية وعدسات مصوري الصحف المستقلة أعضاء فرق الهجوم الحكومية وصراعها مع لصوص كابلات الهاتف وسائقي القطارات وراقصات الباليه وكُتّاب القصة القصيرة. كانت ثورة بكل معنى الكلمة. فإما أن تكون من مشتركي القنوات المشفرة وأصحاب النفوذ ورجال الدولة، أو تكون من لصوص هذه القنوات. ثورة على الهواء مباشرة تشاهدها لحظة بلحظة تتعرف على حوادثها: ليست برتقالية أو لها أي لون. في ليالي الشتاء القارص قسمت ربات البيوت أنفسهن. مجموعة تقوم بتوزيع الأغطية على أعضاء الخلايا التي تكونت في كل شارع وحارة، ومجموعة أخرى تقوم بإعداد الطعام وتوزيعه على هؤلاء الأبطال، بينما يفترش الجميع الطرقات ليشاهدوا برنامجي"أوبرا"و"د. وفيل". نزلت الدبابات إلى الشوارع واحتل الجيش المقاهي والمساجد ودور السينما والملاهي، بينما استولى لصوص القنوات المشفرة على المدارس والمكتبات والملاعب وصالات البلياردو والبلاي ستيشن، وعلى نغمات برامج الواقع و"التوك شو"، كان الجميع في انتظار المواجهة الحاسمة.