في "روميو وجولييت"، يقول وليم شكسبير، بلسان الحبيبة وهي تتحدّث عن عائلة حبيبها: "إسمه وحده عدوّي". لكن عائلته، مونتاغيو،"ليست يداً ولا قدماً، لا هي ذراع ولا وجه، ولا أيّ جزء ينتسب إلى إنسان". ولا تلبث العاشقة الأسطوريّة، في توتّرها بين عائلتها وعائلة حبيبها، أن تختم:"ما الذي في الإسم؟ ذاك الذي نسمّيه وردة، يمكننا، تحت أيّ إسم آخر، أن نشمّ عبيره ذاته". لكن هذا لم يكن رأي العهد القديم حيث تعني الأسماء ما تقوله: ف"آدم"، مثلاً، إسم ل"الأرض"التي وُلد عليها جدّنا الأعلى. والأسماء إذ تتغيّر يكون تغيّرها تعبيراً عن تحوّل أشمل وأعرض. فمن هذا القبيل غدا أبرام الأب، بعدما رُزق أبناء، إبراهيم، وأمسى لزوجته ساراي إسم ساره. والحزبيّون ينتسبون، في هذا، الى شكسبير، لا الى التوراة. فالأسماء، لديهم، غير مهمّة، يتركونها للعاديّ من الأمور ويستعيضون عنها، للجديّ، بأسماء"حركيّة"و"حزبيّة". لكن سيرة إديث بياف تذهب خطوة أبعد مما يذهبون، فتُقنعنا بأن الإسم أقرب الى أن يكون مضادّاً للواقع، يُبدَّل مثلما تُبدّل الجوارب. وهذه حال الفنّانين والفنّانات ممن يولدون في بيوت أربابها يعملون أيضاً في الفنّ. فكما هناك"إسم حزبيّ"، هناك"إسم فنّيّ". هكذا، مثلاً، كانت حال الممثّلة والمغنّية الأميركيّة جودي غارلند، التي ليس اسمُها اسمَها، ولا إسما أمّها وأبويها الفنّانين إسميهما"الطبيعيّين". وإذ ذكّرَنا بإديث بياف مؤخّراً فيلم أوليفييه دهان"الحياة ب"اللون"الورديّ"، تيمّناً بأغنية لها شهيرة تعود الى 1946، فإنه ذكّرنا أيضاً بالمدى الذي يبلغه اهتزاز العلاقة بين الدالّ والمدلول في تجربتها. فهي إسمها إديث جيوفانا غاسيون، منحها إسم بياف العصفور الدوريّ لويس ليبلييه، صاحب النادي الليليّ الذي اكتشفها، والذي اتُهمت لاحقاً، وخطأً، بالمشاركة في اغتياله. ولدت في بيلفيل الفقيرة، شرق باريس، حيث صبّت، ولا تزال، قوافل المهاجرين البائسين الآتين من مستعمرات فرنسا. أمّها ليست أمّاً بأيٍّ من المعاني التي تُسبَغ على الأمومة: فهي أنانيّة قاسية القلب، لا تعبأ بطفلتها المتروكة على رسلها. إسمها الفعليّ أنيتا جيوفانا ميّارد، إلاّ أن غناءها في المقاهي جعلها لينا مارسا. والدها لويس ألفونس غاسيون ليس أباً هو الآخر. ولئن لم يغيّر إسمه، فإن عمله، كبهلوان ومهرّج على الأرصفة، انطوى على مسرَحَة وتزييف كاملين للشخص الأصليّ الذي هو. والوالد إيطاليّ والأمّ مغربيّة أمازيغيّة، بيد أن ابنتهما غدت صاحبة الأغنية البلديّة الفرنسيّة ballad الألمع، أضاف إليها صوتها المؤثّر واللاسع جرعة عاطفيّة رفعها البعض الى سويّة القدرة على"كهربة فرنسا". جدّتها لأمّها عائشة سعيد بن محمّد لكنها، بدورها، أصبحت إيمّا. أما جدّتها لأبيها، التي أناط الوالد بها أن تربّي طفلته، فليست من اللواتي يروين الحكايات للحفيدة إذ يشغلها بيت للعاملات في الحبّ ترعاه في نورماندي. ومع العاملات هؤلاء كان لإديث احتكاكها الأوّل بالبشر، فإذا بهنّ يتكشّفن عن بعض أنبلهم، فيمنحنها دفئاً وصداقة أرقى، بلا قياس، مما تقدّمه الأمومة والأبوّة والصداقات"المحترمة". فحينما أصيبت إديث، ربيبة الأرصفة، بعمى ألمّ بها وهي في الثالثة، واستمرّ أربع سنوات يلازمها، كانت العاملات في الحبّ مَن جمع لها المال الذي يؤمّن حجّها الى مزار القدّيسة تيريز دو ليسيو. فهنّ،"المومسات"، موقنات، على نحو لا يتزحزح، بأن القدّيسة المذكورة تصنع"المعجزات". ولئن تعافت إديث الصغيرة، ظانّةً هي وصديقاتها الشابّات، أن تيريز مَن شفاها، رفضت الكنيسة الكاثوليكيّة، لدى موتها، الصلاة عليها. في وسع سيرة إديث بياف أن تُقنعنا بأن الخطأ أصوب من الصواب، وان قلّة الدلالة دلالة فائضة أو، ربّما، مضادّة. فعندما يُقال"إسم فنّيّ"فهذا يعني، بين ما يعنيه، امتناع القدرة على التسمية أو امتناع تعيين الواقع. ومتى كان الواقع لا يستحقّ أن يُعيّن كان هو نفسه لا يستحقّ أن يكون. هنا يلتقي"الإسم الحزبيّ"و"الإسم الفنّيّ"عند إنكار الواقع، أو اعتباره لاغياً، أو مرشّحاً للإلغاء، عبر"الثورة"كما يرى الحزبيّون، وعبر"الفنّ"كما يرى الفنّانون. وهذا، في الأحوال جميعاً، يبثّ في العالم فوضى شاملة، فيستبعد الأب بوصفه الطرف الذي يسمّي أهل بيته، نائباً في ذلك عن الله الذي يسمّي العالم. لكن الفوضى التي في إديث بياف لم تترك شيئاً طالته يداها إلاّ أخضعته لمفعولها. فذاك الصوت،مثلاً، تمرّد وظلّ متمرّداً على التحديد: فهو، في وقت واحد، خام ومتوحّش وغنيّ وعاطفيّ وحاسم وتراجيديّ ومرِح. وهو، من حيث لا يُكرّر، يصعد الى الأعلى ويهبط الى الأسفل معاً، غضوباً متعالياً وحنوناً متذلّلاً، يعلن حبّها للحياة ويعلن تدميرها لحياتها. ولأنهما، هي وغناؤهما، هكذا، جامعين، متناقضين، كانت إديث بياف أوّل مغنّية شعبيّة تظهر في كارنغي هول، صالة الغناء والموسيقى الكلاسيكيّين في نيويورك. لكنّ ذاك الصوت"الكبير"حمله جسد تستنكر ضآلته أيّة مغنية أوبرا من أؤلئك المتشبّثات في الأرض، طوله لا يبلغ أكثر من 147 سنتيمتراً، الظهر فيه محدودب ومقوّص، والمشية مشية دمية ماريونيتيّة، أما اليدان فتسير بهما صاحبتهما وهما مرفوعتان زاويتين قائمتين، فيما العنق غاطس في أعلى الظهر فقد"غار قذالها"كما كان يقول ابن الرومي. وذاك الحبّ الذي عُدّ أيقونة في كلام الغرام وغنائه، كان يخرج من تلك المرأة التي ليس فيها إطلاقاً ما يحيل الى الجنس والجنسيّ. والحال ان بياف، مغنّية العشق وألمه، كان في هيئتها ما يذكّر بصغار قبضايات الشوارع ممن عرفتْ، لا شكّ، كثيرين منهم في بيلفيل، جيرةً ومعايشة. وربّما للسبب هذا اكتسبت طاقة على المناكدة والمشاجرة وتوجيه الإهانات السليطة ولو إلى أقرب المقرّبين إليها، حتّى ليجوز الافتراض بأنها تألّمت بالقدر الذي آلمت فيه. بل ربّما فسّرت لنا طبيعتها تلك غرامها الأكبر الذي اختارت له ملاكماً هو مارسيل سيردان الذي قضى عام 1949 في تحطم طائرة. فكأن من يعالج العالم بالفوضى يعالجه العالم بالمآسي. ذاك أن بياف فقدت، كذلك، طفلتها الوحيدة التي أنجبها حبّها الأوّل. وقد أدمنت المورفين، فحين رأيناها في المصحّ، وهي في الرابعة والأربعين، بدت كأنها الموت مشخّصاً. ثم إنها، بعد كلّ حساب، توفّيت ولم تكن بلغت الثامنة والأربعين. بيد أنها لم تفعل ذلك إلا وقد خسرت، هي التي اجتمعت الثروات في يدها، كلّ قرش جمعته، مخلّفة لثيو سارابو، زوجها الثاني الذي يصغرها عشرين سنة، ديوناً لا تُسدّد. وهي فصول في سيرة تقع على بعضها في حياة هذه الفنّانة أو تلك، إنما يستحيل العثور عليها مجمّعة كما تتجمّع في سيرة الفوضى البيافيّة التي تتعدّى كلّ حدّ وتكسره. فهذه الأخيرة تكاد تحملنا على الاعتقاد بأن أيّ تعريف قد يُطلَق عليها يقصر عنها ويقلّ، وأن أيّ فهم لها لا يُفهم. فهي التي لم تهبها الدنيا إلاّ مآسيها، ردّت بأن رعت معظم فنّاني الغناء الفرنسي من إيف مونتان الى شارل أزنافور. وهي العاميّة، إبنة الشعب والأرصفة، صارت الديفا العالميّة التي صارتها. ولئن حرّكت بياف في المشاعر أعمقها، وكان لأثرها أن تعدّى الأغنية الى جوانب عدّة من حياة الفرنسيّين، فقد فعلتْ ما فعلته غير عابئة، تعبة النظرة مُستقيلتها، لا تملك من الهمّة والإقبال غير برقة عينين تجدها في ملامح تلميذات صغيرات شاطرات جدّاً، كما يقول الأساتذة عن طلاّبهم وطالباتهم، إنما خجولات جدّاً كذلك. وإلى ذلك تكشّفت ربيبة العاملات في الحبّ، في"بيت الدعارة"، عن وطنيّة إستثنائيّة إبّان الحرب العالميّة الثانية والاحتلال، ما يجافي التعبير العربيّ الشهير عن"الوطنيّين الشرفاء". فهي، وهذا أكبر ما أغفله الفيلم، غنّت للضبّاط الألمان والنازيّين حتى حظيت لديهم بحظوة سمحت لها بتقديم خدمات لا تُثمّن لمقاوميهم. وقد وجد البعض في التجربة تلك ما يلخّص تجربة بلدها نفسه، حيث تعاون الفرنسيّون بسخاء، من خلال حكومة فيشي، مع محتلّيهم، ثم قاوموا الى أن كان التحرير. ففي الحالين سار"الطاهر"و"الملوّث"يداً بيد على نحو ينفي الطهر وينفي التلوّث في وقت واحد. وفي الغضون هذه، وطوال سنيّ عمرها ما بين 1915 و1963، شابه ألمُ بياف، حياةً وغناءً، ألمَ فرنسا ومعاناتها. فوالدها الذي أودعها في 1916"بيت الرذيلة"، وما هو إلا بيت أمّه، فعل ذلك بسبب انخراطه في الجيش إبّان الحرب العالميّة الأولى، تلك الحرب القاسية التي خيضت من خندق الى خندق، فلم تخرج فرنسا ظافرة منها، بأكلاف باهظة، إلاّ لتجد نفسها نهب أزمات أوجُها الانشطار الأهليّ للثلاثينات من حول حكومة"الجبهة الشعبيّة". وجاءت الحرب العالمية الثانية والاحتلال، ثم التعاون والمقاومة، لتضع الفرنسيّين أمام أسئلة على وجودهم وضمائرهم سواء بسواء، حتّى إذا كان التحرير، بفضل الأميركيّين والبريطانيّين، تتالت إخفاقات"الجمهوريّة الرابعة"مستدعية الإنقاذ الديغوليّ، فيما مهّدت نهاية حرب الهند الصينيّة لبداية حرب الجزائر. وبمعنى ما هناك شيء في بياف تشبه فيه معاصرها شارل ديغول الذي يشاركها التعبير عن ذاك الزمن العتيق مثلما يشاركها الإلماح الى دوام وثبات لا يطالهما زمن. فحبّ بياف قياساً بحبّ"البيتلز"ممن صعدوا، بدورهم، في ستينات القرن الماضي، مثل وطنيّة ديغول قياساً بوطنيّة جون كينيدي. ذاك أن الفرقة البريطانيّة كانت تقلب الموسيقى ولا تستأنفها، ناشرةً الزهو والأمل والجديد، جاعلةً الأزياء تلهث خلفها شَعراً وملبساً ولحناً، والتحوّلات الثقافيّة والاجتماعيّة تستوحيها. كذلك رمز الرئيس الأميركيّ الشابّ الى قطع مع الماضي تظلّله بسمة واعدة وتحفّ به زوجة جميلة وأنيقة. وعلى عكسهما، شكّل الألم والمعاناة، التشاؤم والتجهّم ومعاناة الماضي، الطينة التي صُنع منها ذانك الفرنسيّان الكبيران اللذان، مع ذلك، تماهيا مع بلدهما كما لم يفعل سياسيّ أو فنّان مع بلده. بيد أن الفرنسيّة القصوى التي في بياف لم تحل دون تماثلها مع الحبّ والألم بألف ولام التعريف، تماماً كما أن وطنيّة ديغول غدت هي الوطنيّة بإطلاق المعنى. فكيف اجتمع لديها الزمن واللازمن، الرقعة الموضعيّة وتجاوز الحدود؟ أليس هذا ما تفعله السينما والمسرح أكثر مما تفعله الحياة؟ أنظروا الى وجه إديث بياف وابحثوا فيه عن قناع ملتصق باللحم يمسخر العالم!