إذا كان الإنكليز يفاخرون امم الأرض جميعاً ببطلهم الكاتب الأكبر في تاريخ الإنسانية ويليام شكسبير، فإن الفرنسيين يردون عليهم، طبعاً، مفاخرين بكاتبهم الأكبر ايضاً، موليير، المعتبر عالمياً الاسم الأشهر في كتابة مسرحيات النقد الاجتماعي الهازل في تاريخ فن المسرح. وإذا كان الأميركيون يفاخرون اهل الغناء في العالم كله بفن بيلي هاليداي، مغنية الجاز والبلوز الحزين السوداء، وبحكاية حياتها التي نقلت الى الشاشة غير مرة، فإن الفرنسيين - ايضاً - يردون عليهم مفاخرين بفنانة هي الأكبر في تاريخ الغناء الفرنسي وواحدة من الأعظم في تاريخ الغناء في العالم كله: إديث بياف. اليوم، وفي وقت واحد تقريباً ها هم الفرنسيون، من طريق سينماهم التي تزداد ازدهاراً يوماً بعد يوم، يحولون فخرهم الى عملين سينمائيين، أولهما"موليير"الذي بدأ عرضه هذا الأسبوع، متواكباً مع صخب الحديث عنه، والثاني"الصبية"الذي يبدأ عرضه بعد ايام. ومن الواضح ان كلاً من هذين الفيلمين سيحقق من النجاح ما يتوقعه المعنيون منذ الآن، النجاح الجماهيري والنجاح النقدي ايضاً. والنجاح لن يكون، فقط، على قدر شهرة صاحبي السيرة موليير وإديث بياف في فرنسا وحياتهما الفنية، بل سيكون مرتبطاً بتمكن السينما الفرنسية، اخيراً، من خوض لعبة هذا النوع السينمائي بحذق ومهنية رفيعة. على خطى شكسبير وأمام هذا الواقع، سيكون سهلاً التساهل مع نقطة الانطلاق الاساسية التي بنى من خلالها المخرج الشاب لوران تيرار، موضوع فيلمه"موليير". وهي نقطة كان من شأنها ان تثير جدلاً ساخراً لو ان الفيلم لم يأت في المستوى اللائق الذي اتى عليه. وذلك ببساطة، لأن نقطة الانطلاق هذه، لا تتعلق بسيرة موليير، أكثر ما تتعلق بالمنطلق الذي كان المخرج الإنكليزي جون مادن بنى عليه قبل سنوات فيلمه الرائع"شكسبير عاشقاً"... فالتشابه في المنطلقين يصدم في الحقيقة. في"شكسبير عاشقاً"، ومن دون الاستناد الى أي واقع تاريخي حقيقي تخيل الفيلم ان شكسبير خلال فترة من حياته كانت مملوءة بالمشاكل والخيبات، التقى ممثلة شابة وقع في هواها، ومن اجلها وانطلاقاً من استلهامها كتب"روميو وجولييت". والواقع ان فيلم"شكسبير عاشقاً"حاول من خلال هذه الحكاية - الخيالية؟ - ان يملأ ثغرة في سيرة صاحب"هاملت"وپ"ماكبث"تقول الحكاية انه اختفى خلالها فترة عاد بعدها وكتب دراما الحب الخالدة التي كانت العمود الفقري للفيلم. "إذاً... إذا كانت سيرة شكسبير تتحدث عن اختفاء من هذا النوع. فلنقرأ سيرة موليير لعلنا نجد شيئاً ما يمكنه ان يعطينا فكرة!"بدا اصحاب مشروع"موليير"وكأنهم قالوا هذا لأنفسهم. وبالفعل سرعان ما وجدوا ضالتهم المنشودة: كانت هناك فترة اختفى موليير خلالها وكان لا يزال بعد في الثانية والعشرين من عمره يحاول ان يصعد خطوات المجد، لكن البؤس يكبله والدائنين يطبقون عليه. وكانت النتيجة ان اختفى طواعية، من ناحية هرباً من الدائنين ومن ناحية اخرى بحثاً عن إلهام ما. وهذه الفترة ذات الغياب الغامض، هي التي تشكل محور فيلم"موليير"اليوم، حيث ان المخرج تيرار وغيره من اصحاب المشروع، عرفوا كيف يملأونها في شكل خلاق، بدأ من حيث انتهى اختفاء شكسبير، لكنه، اسلوبياً وموضوعياً، عاد وتجاوز ذلك. خصوصاً ان تيرار اختار لفيلمه ان يكون كوميدياً، ثم جعل مولييره يلتقي بسيدة يغرم بها هي ألمير وتقوم بالدور لاورا مورانتي، كما يلتقي في الوقت نفسه بثري من الأعيان هو السيد جوردان الذي يطلب منه ان يعطيه دروساً في الكوميديا في مقابل مبالغ من المال تقيه عثرته. وإذ نعرف ان بطل مسرحية"البورجوازي النبيل"يسمى السيد جوردان الذي اشتهر بكونه ادرك فجأة انه يتكلم نثراً، يمكننا ان نستمتع بذلك اللقاء الذي كان، على أي حال، السبيل الذي جعل موليير يلتقي خلال تلك الفترة نفسها بعدد كبير من الشخصيات، الحقيقية أو الوهمية، التي سنجدها بعد ذلك تسكن مسرحياته. والحقيقة ان هذا الجانب التخييلي هو اجمل ما في الفيلم، وهو الجديد فيه ايضاً، والذي يبرر عودة السينما الفرنسية الى فيلم عن موليير بعد ان سبق لها ان انتجت افلاماً عدة عن حياة وفن ذلك المؤلف المؤسس، لعل اهمها وأعمقها الفيلم الذي حققته آريان منوشكين مع فرقتها المسرحية"فرقة مسرح الشمس"قبل سنوات عدة ونال نجاحاً باهراً. عودة الى الحياة الفيلم الذي حققه اوليفييه داهان - او دهّان - عن اديث بياف في عنوان"الصبية"ليس اول فيلم تحققه السينما الفرنسية عن حياة صاحبة الأغنيات الرائعة وآلامها مثل"الزحام"وپ"نشيد الى الحب"وپ"ما فائدة الحب" وپ"بادام بادام". فالسينما الفرنسية لم تبخل ابداً على صاحبة اجمل صوت وأصعب حياة في تاريخ الفن الفرنسي، طالما ان هذه هي المرة الرابعة أو الخامسة التي يتحول فيها عذاب اديث بياف الى فيلم. ولعل الفيلم الأشهر - الأشهر من دون ان يكون عملاً كبيراً - كان ذاك الذي حققه كلود ليلوش العام 1983 في عنوان"اديث ومارسيل"مركزاً فيه، خصوصاً، على العلاقة التي ربطت ذات يوم بين نجمة الغناء ونجم الملاكمة مارسيل سيردان. غير ان هذه المرة تختلف كما يبدو. وذلك ان حماس النقاد الذين شاهدوا الفيلم في العروض الصحافية، حتى الآن، يبدو بلا حدود، ولا سيما بالنسبة الى استقبالهم اداء ماريون كوتيار تلعب دور المغنية الكبيرة بجمال وفخامة ندر أن وصف بهما اداء ممثلة فرنسية خلال السنوات الأخيرة. قال النقاد مجمعين، انه لو لم يكن ثمة في الفيلم غير اداء ماريون، لكان جديراً بأن يشاهد، طالما انها، اضافة الى تقمصها شكل اديث بياف الخارجي وصوتها وحركاتها وحزن عينيها الأبدي، عرفت كذلك كيف تتقمص روحها. ولعل من اصعب الأمور على فنان ان يتقمص روح فنان سبقه وعرفت روحه كيف تتغلغل الى عمق أعماق الجمهور ترى أفلم يكن تقمص الروح هو الغائب الأكبر عن الفنانتين العربيتين اللتين لعبت كل منهما، على هواها، دور ام كلثوم في فيلم بالنسبة الى الأولى وفي مسلسل بالنسبة الى الثانية؟. ماريون كوتيار، بحسب النقاد لم تكن تمثل اديث بياف في فيلم"الصبية"بل كانت إديث بياف. ومن هنا، قالوا، لو لم يكن ثمة في الفيلم غير هذا الحضور وغير هذا التقمص لكان فيلماً كبيراً، لكنه اتى ايضاً فيلماً ساحراً، يدهش ويفاجئ حتى حين يقدم من المعلومات والمشاهد والحقائق والتخمينات ما نعرفه، ويعرفه الجمهور منذ زمن بعيد. "الصبية"وپ"موليير"انطلاقاً من هذا كله، وربما تحديداً لأن ما يجمع بين مخرجيهما كونهما لا يزالان في ريعة الشباب وفي الحقبة الأولى من مسارهما الفني، فيلمان سيكون الكلام عنهما كثيراً في الأسابيع المقبلة. ولكن منذ الآن يمكن القول، انهما على الأقل، اعادا الحياة الى السينما الفرنسية، من خلال اعادتهما فنانين فرنسيين كبيرين الى... الحياة.