تجتمع عائلة كريم أمير في رواية "بوذا الضواحي" للروائي البريطاني الهندي الأصل حنيف قريشي ترجمة الشاعر سامر ابو هواش، دار الجمل، 2007 شأنها شأن جل المهاجرين الهنود، وكل مهاجر من مجتمعات المستعمرات السابقة، على تخوم العواصم والمدن، وفي الغيتوات والضواحي. وتقف على حافة الثقافات الأجنبية الكولونيالية التي تقيم على ارضها، وتحاول اكتساب هويات جديدة لا تلبث ان تفاقم حياتها قلقاً وتهديداً وتوتراً. وإذا كان هارون والد كريم الذي يمثّل الجيل الأول، من المهاجرين الذين جاؤوا عقب الحرب العالمية الثانية، من الهند الى بريطانيا، بقي على رغم زواجه من امرأة انكليزية، يقاوم"الإنكليزي"الذي هو فيه. فإن كريماً نجله الإنكليزي النشأة والمولد، يتوجس هو الآخر، من كل من هو حوله، وتقلقل هذه النظرة المتوجّسة مسار اندماجه في مجتمعه البريطاني، المفترض انه طبيعي أو مألوف بالنسبة إليه. وكريم في بعض اختباراته الحياتية، صنو حنيف قريشي كاتب الرواية، الذي يكتب روايته بضمير المتكلم، ويحوّلها الى ما يشبه السيرة الذاتية، حساس بأقلويته العرقية التي تكشف عنها لُكنته، وسحنته السمراء الداكنة، ومتردد في إقامة العلاقات مع الآخرين. وهو يتحالف ضمنياً مع زميلته في التمثيل الزنجية ترايسي لإخفاء عقد النقص التي يعاني منها مهاجرو العالم الثالث، فيحاولان تقديم شخصيات غير بيضاء على المسرح، لا تكون مثار انتقاد المشاهدين البريطانيين، من خلال تحطيم صورهم النمطية التي اعتادت عليها العقلية البريطانية الاستعمارية، بوصف هؤلاء بأنهم لا عقلانيين وهستيريين ومتعصبين. وإبراز جوانب أخرى من حياة مواطنيهم أكثر ايجابية وجاذبية. بطل الرواية كلف بصورته عن نفسه وصورة الآخرين عنه، وهو يحاول ان يستخلص هوية واحدة متماسكة من بين هويات متعددة ومتصدعة، تفترضها ارضية الصراع على البلد المختلف والحضارة المتباينة. كان من المفترض ان يكون إنكليزياً بحكم تربيته، وصلته بأمه البريطانية. لكنه كان في نظر الإنكليز دائماً زنجياً، أو ملوناً، أو"باكي"أي باكستاني بالمعنى العنصري للعبارة المتداولة بين البريطانيين. التواصل مع محيطه منقطع او مشوش، على رغم انه يحاول ان يصطنع آصرة ما، مع بعض البريطانيين اليساريين ? والكاتب قريشي هو الآخر احد الناشطين السياسيين في بريطانيا ? فينخرط بطله كريم بدرجة محدودة في النشاط السياسي والطبقي، من غير ان يحقق فائدة مرجوة. بيد ان كريماً أو حنيفاً وهو الواقف على حدود العِرق والتاريخ واللغة، بإمكانه ان يستوعب ضروب الاختلاف والتباين بين حضارة القوي، حضارة المركز المتبوع، وحضارة الضعيف التابع. وهو الأقدر على اكتشاف المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية بعد الحرب الكونية، التي عاشتها بريطانيا، خصوصاً بعد الستينات، وما شهدته من ارتقاء أفكار التحرر، والتطور الفني والموسيقي، وظهور الحركات الهيبية. وتصدّر الإعلام والدعاية موقع النفوذ الاجتماعي والمادي. وما أفرزته من أمراض نفسية، مثل النفاق الاجتماعي، والفجور الجنسي البهيمي والإدمان، والعنصرية، والسعي المحموم وراء الشهرة والبذخ، والتباهي الاستعراضي بالمكانة الاجتماعية، وتفكك أواصر العائلة. وإفضاء كل ذلك الى بروز فردية متضخمة، وعزلة قاتلة، جعلت شانغيز الباكستاني يقول يوماً:"كل شخص يُترك ليتعفن وحده، ولا أحد يحمل احداً حين يقع. هذا النظام الصناعي هنا قاس جداً، ولهذا السبب أسقط". أغلال التاريخ الكولونيالي لم يكن التمثيل بالنسبة الى بطل"بوذا الضواحي"في شكل أو آخر، طريقاً لبلوغ الشهرة فحسب، أو وليد موهبة، أو مجالاً للتسلية أو الإثارة أو الترفيه. إنما كان الى ذلك، ضرباً من ضروب"البسيكودراما". ضرباً من العلاج النفسي لشخصية تقيّدها أغلال التاريخ الكولونيالي، والأصول المطعون فيها، والهويات المهمّشة. لذلك كان كريم يختار دائماً دور الهندي، ساعياً الى بناء صورته التي تلائم بين واقعه البريطاني المعيوش، والمتخيّل الهندي الذي يحمل رواسبه من أبيه. صورة تسترد، أو ترمم نصفه المفقود. فهو نصف إنكليزي ونصف هندي. وهو في هذا الاختيار، ينزل عند نصيحة المخرج المسرحي بايك:"لكي تجعل ذاتك المصطنعة حقيقية، عليك ان تسرق ذلك من ذاتك الأصلية". وعلى رغم ان كريماً هو من مهاجري الجيل الثاني، ويغرق كما تصوره الرواية، في فضاء المجتمع اللندني، مشبعاً بثقافتها ورواياتها ولغته وإيقاعاتها وفنونها وروائحها ومذاق أطعمتها حتى النخاع، فإنه لا ينفك يتلجلج في إشكاليته الحضارية العميقة: فهو جزء من إنكلترا، ومع ذلك يقف خارجها. وعليه أن يقرر في كل لحظة، ان يكون هنا او هناك. وهذه إشكالية روائية سبق ان قاربها روائيون عرب، مثل الطيب صالح، وسهيل ادريس، وتوفيق الحكيم وسواهم، في وقت مبكر. إلا ان أبطالهم أقرب الى أن يكونوا ضيوفاً على الغرب، أو طلاب علم عابرين، أو في أحسن الأحوال، يشبهون مهاجري الجيل الأول، في رواية"بوذا الضواحي". مثل: هارون والد كريم وأنور، اللذين لم يعربا عن رغبتهما مرة واحدة بالعودة الى موطنهما الأصلي. إلا أنهما كانا يعودان"داخلياً"الى الهند. وظلّت الأمكنة وأسماء الشوارع غريبة عليهما، وكثيراً ما كان ينساها هارون، على رغم مكوثه المديد في بريطانيا. وهذا النسيان يُحسب من العوارض اللاواعية المعبّرة عن رفض صاحبها الإقامة في هذا البلاد. بل كان عمل هارون الأب بوذا الضواحي في أمسياته"اليوغية"أو محاضراته بين أصدقائه الإنكليز عن الفلسفة الشرقية، محاولة للتشبث باعتزاز بجانب من جوانب تراثه القومي اللاديني وماضيه الحضاري من طرف، ومن طرف آخر، طريقة من طرق التعويض النفسي، من خلال السيطرة المعنوية، والهيمنة الروحية على هؤلاء الإنكليز الذين كان"يأمرهم"بممارسة بعض وضعيات اليوغا، وحالات أخرى من التأمل والاسترخاء."يأمرهم"بأن يستلقوا على ظهورهم، أو يباعدوا أرجلهم، أو يرفعوا أذرعهم، أو يرخوا أعضاءهم على نحو خاص. وإن كان هذا الانجذاب الى الصوفية الهندية يعبّر عند هؤلاء الإنكليز عن خواء روحي، وعن فراغهم الداخلي، كما يدعي هارون، إلا انها فرصة سانحة لهذا"البوذي"ثقافة، والمسلم ديناً، ليتزعم هؤلاء الحاضرين بوصفه حكيماً من الحكماء، وقائداً روحياً ملهماً. وهذا البوذي المسلم لم تُجدِهِ حكمته نفعاً، حين تأرجحت حياته، بين مارغريت وإيفا. بين الزوجة والعشيقة. بين الواجب والمتعة. وقد وصل أخيراً الى قناعة، بأن ظهور المعنى قد يحتاج الى سنوات، وفي هذه الأثناء عليه ان يعيش حاضره، ويستمتع بالسماء والأشجار والأزهار ومذاق الطعام الطيب. وهارون هذا الذي يدّعي ما يدّعيه، لجمه بعض إسلامه الملتبس والمترسب والغامض، من ان يتناول لفترة طويلة من حياته لحم الخنزير، لكنه حين اختبر طعمه، ذات مرة، هرع الى الحمام وغسل فمه، صارخاً بأنه سيحترق في نار جهنم! تطرّز المفارقات الطريفة، والمواقف الفكاهية والمشاهد الكوميدية، والأوصاف الهزلية رواية حنيف قريشي، وبحسه الروائي التهكمي الساخر يعرّي الكاتب المجتمع البريطاني، من كل ما يستر قباحاته وبذخه وخوائه. كذلك يصف بأسلوبه الطريف عبثية الحياة، في لحظات عدة، من حياة هؤلاء المهاجرين المقتلعين الذين تحيط بهم القسوة والازدراء والمرارة، من كل جانب. والذين لا يحسنون التصرف أو السلوك. أبطال"بوذا الضواحي"أقرب الى ان يكونوا متسكعين، يعيشون حالة من الاضطراب والقلق الوجودي، والبحث عن التجارب الحياتية والجسدية المثيرة، والرفاق الحقيقيين والوهميين. حالة من الهجرة الباطنية الدائمة. حيث المهاجر الحقيقي، كما يقول شادويل في الرواية:"هو الإنسان العادي في القرن العشرين"أي الإنسان المتحوّل المتغيّر، البحث عن انتماء غير ثابت. أبطال يتواصلون ويتقاطعون مع بعضهم، ويقعون أحياناً ضحايا طموحاتهم وإخفاقاتهم وأوهامهم، أو ضحايا قناعاتهم الراسخة كما حصل مع أنور الذي قضى بسبب تشبثه بالتقاليد الذكورية الشرقية، وخيبته بالحصول على حفيد له. والروائي حنيف قريشي يستعيد من خلال الوصف الدقيق لأحياء لندن وضواحيها الشعبية المهمشة، وخليطها الثقافي والحضاري الذي يمثّله الوافدون والمهاجرون، وغموضها وكوابيسها وابتذالها، ومن خلال ابطاله المثليين والعصابيين والفرديين، دور العائلة المهاجرة، وعلاقة المهاجر ببلده ومنفاه الاختياري، وماهية الزواج، وفكرة الأبوة والأمومة، والنظر الى الجنس، والنفس والجسد. ويصف قريشي، السلوكية العنصرية الاستعدائية للجالية الهندية المسلمة عند بعض البريطانيين، من خلال حركات وتصرفات تحقيرية إزاءها، مثل الشتم والبصاق والتبويل والتغوّط وإضرام النار، وسوى ذلك من حركات وإشارات مبتذلة وفاحشة. وتنقل الرواية رُهاب البعض ممن يخشى، حتى لمس أمتعة افراد هذه الجالية، حيث ترفض هيلين ان تفتح حقيبة شانغيز صهر أنور، كي لا يلسعها البعوض في الحقيبة وتصاب بالملاريا. وطريقة التعامل الاستعلائي هذه، تدل بوضوح على ازدراء لكل ما هو مختلف ومهمّش. وكل ما هو منبوذ في نظر أبناء الحضارة المهيمنة. بيد ان حنيف قريشي في روايته هذه، لا يكتب سردية هجائية ضد الغرب ما بعد الكولونيالي، أو رثاء الذات العالمثالثية، وإنما يحاول بناء نص سردي تنصهر فيه، وإن عبر مسار معقّد، تجارب جماعية مشتركة، بكل احتكاكاتها وتقاطعاتها الثقافية والاجتماعية، لا تنفصل فيها مشكلة الغرب عن الشرق.