بدل التفكير بما يجدي، انغمس العرب في نقاش أشبه بطحن الكلام والتراشق بالألفاظ والمصطلحات، عن مسابقة"عجائب الدنيا السبع الجديدة". والمفارقة أن للنقاش أسباباً تصلح مدخلاً لحديث جدي عن موقع العرب في الحضارة المعاصرة. فالمعلوم أن مدينة البتراء الاردنية رُشحت ثم فازت لتندرج في قائمة العجائب الجديدة، وأدى ذلك الى ميل بعض الأردنيين والعرب لتأييد المسابقة. وفي المقابل، رأت مصر أن المسابقة أقل شأناً من أهراماتها، وهي الوحيدة المتبقية من عجائب الدنيا، فأثارت اعتراضاً عن مدى جدية المسابقة، وحق جهة ما، من دون تخويل مناسب، بتحديد موقع الأهرامات في خيال البشر. ورأت"يونيسكو"وجاهة في الاعتراض المصري، فأعلنت أنها تنظر الى تلك المسابقة كنشاط خاص، لا شأن له بما تنهض به المؤسسة، وهي المتفرعة من المؤسسة الوحيدة التي تملك نوعاً من التفويض المعنوي من الأسرة الدولية أي الأممالمتحدة، من حماية لتراث الجنس الانساني. وانعكس موقف"يونيسكو"على المسابقة بطرق شتى، ومنها مبادرتها الى اختصار لائحة ترشيحاتها الى 21، طرحت على الموقع الالكتروني للمسابقة لكي يختار الجمهور سبعاً منها للفوز. وهكذا انقسم العرب، جرياً على عادة متأصلة فيهم. ودار"حوار طرشان"نموذجي بين طرفي الانقسام العربي. فمن أفواه المؤيدين، انهمرت مصطلحات مثل"العالم الجديد"وپ"الفضاء الالكتروني وپ"الديموقراطية في العالم الجديد"وغيرها من الكليشيهات التي باتت مألوفة، والتي حاولت أن تضع من له اعتراض على المسابقة في موقع"المتخلف"عن العالم الالكتروني والديموقراطية المفترضة التي تسري في الالياف الضوئية! وفي المقابل، أزدرى المعترضون بالمسابقة كلها، وكأن مجرد اجرائها يتضمن اعتداء مضمراً على مكانة لا يجب السؤال عنها. والغريب أن المعترضين ابتلعوا حجج المؤيدين، والعكس صحيح أيضاً. فقد تبنى الجمعان ما يردده موقع المسابقة من أن شخصاً واحداً، سواء الشاعر فيلون أم المؤرخ هيرودت، حدّد عجائب العالم، فلماذا ترفض عملية يشارك فيها الملايين بالتصويت لاختيار عجائب الدنيا المعاصرة. لنتأمل في الأمر قليلاً. ربما حدّد شخص أهرامات الجيزة وحدائق بابل وغيرها، كعجائب. لكن كيف تأتى أن سارت أجيال من الناس، من ثقافات وحضارات شتى، على رسم تلك الآثار عجائب في أخيلتهم وثقافتهم؟ وبأي آلية سار ما يشبه الإجماع الانساني النادر، على اتخاذ تلك المواقع محلاً لما يفوق قدرات البشر على الانجاز؟ لم يشر أي من المتحاورين الى هذا البُعد، على رغم أنه عصب أساسي في النقاش. ألا يلفت، مثلاً، أن قوة الخيال البشري المتجمع حول العجائب تضمن الرقم 7 منذ 2200، فكيف ولماذا استمر الشغف بالرقم عينه ليشير الى عدد العجائب في العالم الجديد أيضاً؟ بقول آخر، ألا يلفت أن الفضاء الالكتروني، على رغم ما يسبغ عليه من أوصاف عالية الرنين، كرّر ما قاله شخص وحيد قبل أكثر من ألفي سنة من حصر لعجائب الدنيا في سبع؟ ألم تتغير الدنيا، فلماذا أرغام الجمهور الالكتروني عالمياً على اختيار سبع عجائب وكيف ساد الاقتناع بأن الدنيا، بعد ألفيتين من الزمان، لا تضم سوى سبع عجائب؟ ألا يدل ذلك الى قوة الخيال التاريخي لهذه المسألة، ما يعطي موضوعاً أكثر خصوبة للنقاش؟ وثمة سؤال يصعب مداراته: ماذا تعني"عجيبة"؟ وهل تعني اليوم ما عنته قبل ألفي سنة وأكثر؟ لقد سعى منظمو المسابقة الالكترونية الى ضم الأهرامات الى قائمتهم، ما يعني اعترافهم باستمرارية"العجائبية"في تلك الآثار، فما الذي تقوله الأهرام، باعتبارها الباقية وحدها من الدنيا القديمة، الى العالم الجديد؟ لنسير خطوة أبعد. لم يعرف العلم سر بناء الأهرام. هل يبرر ذلك عجائبيتها أم أن المسألة لها جانب آخر؟ إن كان عجز العلم مُبرّراً، فإن العلم يعرف تماماً كيف بنيت ناطحات سحاب نيويورك وتمثال المسيح الفادي في البرازيل ومسجد تاج محل في الهند وغيرها، بل لم يقل أحد أن عدم قدرة العلم على معرفة كنه أثر ما هو المبرر لإدراجه في صنف العجائب! ولا يثير السخرية بشيء قدر الحديث المفتتن بالتكنولوجيا الحديثة، وكأن مجرد ترداد المصطلحات التي تشير اليها يكفي لينتسب القائل الى تلك العلوم. المفارقة أن المسابقة ترافقت مع صدور كتاب جورج تينيت"الذي يتحسر فيه على عدم قدرة وكالة مثل"سي آي أي"على رغم ما تحوزه من تقدم في التقنيات الرقمية يعزّ على معظم العرب على التقاط مسار الثورة الرقمية. أما العرب، فيكفي أن نقول الكلمات ونرددها، كصوفي في شطحة مستغرقة، لكي نصل الى حال المعرفة والتماهي مع ما تشير اليه الكلمات من علوم! وفي المنحى نفسه، هل كلف المنشدهون بالتكنولوجيا الرقمية أنفسهم عناء تصفح النقد العميق لتلك التقنية في الغرب، وخصوصاً في الولاياتالمتحدة، ومن بينها مثلاً موقع البروفسور ليسيغ، المستشار المعلوماتي السابق للرئيس الديموقراطي بيل كلينتون. ويكرس ليسيغ نفسه لنقد التكنولوجيا ولمناهضة هيمنة شركات المعلوماتية العملاقة، وللتصدي لزيف استخدام تلك الشركات لمقولة مثل"حقوق الملكية الفكرية"ولشرح التفاوتات القوية في العالم الافتراضي وغيرها. ولا يظهر شيء من ذلك في حديث من لا يستطيع التأمل النقدي للتكنولوجيا، فيكتفي من الغنيمة بالإياب، ويكتفي من التكنولوجيا بالانشداه بمنجزاتها! ولكن، هل أن النقاش العربي الوحيد الذي يتمتع بهذه الصفات؟ الارجح أن القارئ أكثر علماً بالإجابة...