سيتذكر اللبنانيون بهذا القدر أو ذاك، على مدى 33 يوماً، هذا التفصيل أو ذاك، وهذا الحدث أو غيره من وقائع الحرب التي شنتها إسرائيل عليهم خلال الصيف الماضي، إذا لم يشغلهم حدث امني مأسوي آخر، كاغتيال أو تفجير، في المدة الفاصلة بين 12 تموز يوليو تاريخ بداية العمليات العسكرية الإسرائيلية، و14 آب أغسطس تاريخ نهايتها، وإذا لم يدهم ذاكرتهم تطور سياسي، يزيد من توترهم فيشغلهم عن الذكرى، أو يجعلهم يأملون بحل ما لأزمتهم الداخلية المتمادية، وحتى لو كان الأمل وهماً. ستختلط عليهم الأحداث من كثرة تدافعها، وهم يستعيدون ايام تلك الحرب الهمجية، والأثمان الباهظة التي دفعوها، والتي لم ولن تلغي حقيقة انها شكلت تحولاً في سياق المواجهة العربية - الإسرائيلية منذ عشرات السنين، بتمكّن"حزب الله"والمقاومة من هزم أهداف جبروت القوة المطلقة التي اعتقد قادة اسرائيل ومعهم الإدارة الأميركية، بأن جيش الدولة العبرية قادر على تحقيقها في كل الأحوال. فمهما كانت الالتباسات التي تخلّفها الأزمات المتوالدة في لبنان وفي المنطقة، قادرة على حجب الرؤية عن تلك الحقيقة، فإن استمرار تداعيات الفشل الإسرائيلي، على إسرائيل نفسها والمستمرة في التمظهر كل يوم، كفيلة وحدها بتذكيرنا ان نتيجة الحرب أكدت انه يمكن هزم إسرائيل وأن القدرة الردعية لجيشها باتت قابلة للسقوط، إذا وجدت الإرادة السياسية لمواجهتها. فرضت اسرائيل هذه الحرب بدعم اميركي، على اللبنانيين في وقت كانوا مختلفين، فسعوا الى حد أدنى من التضامن والوحدة خلالها، لكنهم سرعان ما عادوا الى انقسامهم الى درجة باتوا معها أقرب الى الحرب الأهلية. كان عمق الانقسام بعد الحرب دليلاً على ضعف البنية السياسية اللبنانية والعربية، وبالتالي على عدم القدرة على توظيف الانتصار في المواجهة الطويلة الأمد مع اسرائيل، عسكرياً وسياسياً، في الصدام وفي التفاوض. وبدا كأن الحرب كانت وقتاً مستقطعاً بين مرحلتين من الصراعات الداخلية، اللبنانية والإقليمية، بينما هي فعلياً، أو هكذا يُفترض ان تكون، محطة مفصلية في الصراع الجوهري الدائر مع الدولة العبرية، على مصير المنطقة ككل واستقلالها ونموها ودورها على الساحة الدولية. وحتى إشعار آخر، يبدو ان البنية العربية واللبنانية أضعف من القدرة على هضم انتصار كالذي تحقق واستيعابه وتوظيفه لمجرد إحباط الأهداف الإسرائيلية. كما يقول الأمين العام ل"حزب الله"السيد حسن نصرالله، ويبدو ان البنية السياسية الإسرائيلية قادرة على استيعاب هزيمة لحقت بجيشها عبر الإجراءات التي اعتمدها المجتمع السياسي الإسرائيلي. لقد اختلف اللبنانيون اساساً على قراءة أسباب الحرب ومن ثم على نتائجها واندرج هذا الاختلاف في سياق الانقسام السياسي الذي سبقها. تسرّع البعض في الأكثرية في الطلب الى"حزب الله"تسليم سلاحه متناسياً تضحيات مقاتليه وجمهوره، بدلاً من ان يتريث ليلتقط الحزب أنفاسه من المواجهة الضارية. استعجل معارضون طلب ثمن تضامنهم مع الحزب اقصاء لخصومهم، متناسين ان هؤلاء الخصوم لم تقل تضحياتهم شأناً على الصعيد الوطني عن تضحيات حلفاء الحزب هؤلاء، هذا اذا لم تكن فاعلياتها في"المقاومة السياسية"أكثر. افتعل حلفاء الحزب ثم الحزب نفسه عملية تخوين كبرى لتبرير الهجوم الداخلي وانجر الحزب تحت وطأة استهوال الخسائر التي تعرض لها، ومناطق نفوذه الى تحميل لبنانيين وزر ما فعلته اسرائيل. اما سورية ومعها حلفاؤها فقد راوح توظيفها لنتائج الحرب بين السعي الى إلغاء المحكمة ذات الطابع الدولي لمحاكمة المتهمين في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري وبين العودة الى الإمساك بخيوط الوضع الداخلي اللبناني من بعد... بدعم ورعاية ايرانيين. ألم يكن كل ذلك وغيره كافياً لحصول الالتباسات حيال الحقيقة الأساس، وهي ان اسرائيل تعرضت الى هزيمة، وللاستنتاج ان التوظيفات الداخلية للانتصار، تفقده فاعليته وإمكان الإفادة منه في المواجهة مع اسرائيل؟ بعد سنة على الحرب، أمام اللبنانيين فرصة مراجعة لما شهدته هذه السنة. فغلبة الحديث عن الوضع الداخلي والخلافات، حتى لو كانت من باب الدعوة الى الوحدة، لمناسبة إحياء الذكرى بما فيها خطب أصحاب الانتصار وتصريحاتهم، وحدها دليل الى ان ثمة خطأ ما يحصل، وآن الأوان للاقتناع بأن التوظيف الداخلي لنتائج حرب تموز قد استنفد اغراضه وأنه اذا استمر، قد يأخذ لبنان برمته، بأكثريته ومعارضته ومقاومته الى مصير أسود.