من المتفق عليه أن الصحافة السعودية المحلية، والطبعات المحلية من صحف يتم نشرها خارج السعودية كهذه الصحيفة، لها حيز كبير من الحرية في تناول ما تريد تناوله، سواءً أكان متعلقاً بالعمل اليومي للوزارات وبقية مصالح الخدمات الحكومية، أو ما كان يتعلق بدول أخرى بما فيها أصدقاء السعودية من عرب وغير عرب. وليس صحيحاً أن ما تنشره الصحف السعودية يمثل رأي الحكومة السعودية. فمن الواضح أن هناك مقالات تنشرها الصحف السعودية المحلية وأحياناً حتى الدولية، لكتاب محسوبين على تيار"الإخوان المسلمين"أو من المتعاطفين مع افكار الثورة الاسلامية في ايران، وكلهم يسطرون المقالات، وأحياناً القصائد، التي تتغنى جميعها بأمجاد أحزاب سياسية دنيوية، ترفع الإسلام شعاراً ووسيلة للوصول إلى السلطة. وبالطبع، ان أي وزارة أو إدارة حكومية، بل أي شركة خاصة، تقدم خدمة للناس، ستتعرض للنقد غير الموضوعي أو الموضوعي الذي يريد الإصلاح حتى لو كان الناقد غير مؤهل لا تحصيلاً ولا تجربة إدارية ميدانية من أي نوع. وهذا النوع من النقد قد ينفع قليلاً بمعنى انه يمثل رأي جزء من الناس، والأهم، أن هذا النوع من النقد الذي تمليه نيات حسنة، لا يؤدي إلى تحطيم معنويات من يبذلون جهدهم، بقدر ما تسمح به ظروف العمل وبيئته، لتقديم خدمة عامة مقبولة. إذاً أين المشكلة؟ تكمن المشكلة في أنه كلما اتسع باب حرية الرأي، دخله باسم الإصلاح أو باسم المواطنين أو بأي اسم آخر، الجهلة والسذج والأخطر ذوو المصالح الخاصة أو الحزبية المؤدلجة في وطن يكره معظم أبنائه التحزب. إن المتابع يرى يومياً، وأحياناً، بقلم مجموعة معروفة من الكتاب، نقداً قد يقترب من الافتراء، إما بأسلوب تهكمي، أو بمكابرة لا يجرؤ عليها إلا من انقطعت بينه وبين الموضوعية ومسؤولية الكلمة كل صلة. فهناك ما تتعرض له وزارات تقدم خدمات معقدة يصعب تقديمها في جميع الظروف والأوقات بصورة جيدة أو حتى مقبولة في العالم أجمع، كالخدمات الصحية، ومع ذلك يكتب معظم هذه الانتقادات بما في ذلك الجارحة المحبطة للمخلصين من مقدمي الخدمة، أفراد لم يسبق لأحد منهم إدارة أربعة رؤوس من الغنم العرج، دع عنك إدارة تقديم خدمة حكومية. وهذا لا يعني، كما هو واضح لكل نصف بصير، أن خدمات وزارات الصحة، أو خدمات أي جهة أخرى، ليس فيها شيء يستحق النقد، وإنما المراد قوله، إن النقد قد يكون حقاً مشاعاً للجميع، ولكن القادرين عليه بموضوعية، وبعيداً عن المصالح الشخصية أو استعراض العضلات في القدرة على استهداف المسؤولين، فقلة قليلة. بل ان "الحوار الوطني"وهو الإدارة الصحيحة للتعبير عن الرأي والمحاورة الملتزمة بآداب الحوار، لم تسلم من النقد، وإن كان نقداً أملته نيات حسنة في معظم الأحيان. لقد أوجد الملك عبدالله بن عبدالعزيز مؤسسة"الحوار الوطني"التي يعرف من يلم بتاريخ السعودية وتركيبتها السكانية والاجتماعية، بأنها أفضل وسيلة تناسب المجتمع السعودي بكل ظروفه الآنية للحوار الوطني. وقد فات الذين أرادوا إحداث تغيير مفاجئ لكل المفاهيم والموروثات أن مجرد وجود أداة"للحوار"هو إصلاح عظيم يحتاج الى سنوات لنشر ثقافته وبناء أسسه. وكان اختيار ولي الأمر لرجل في مقام معالي الشيخ صالح الحصين، لقيادة مداولات"الحوار الوطني"موفقاً. فالشيخ صالح الحصين من القلائل الذين لا يمكن أن يزايد أحد على نزاهته وزهده بالمناصب ولا على ولائه لوطنه. إن مجرد وجود الحوار من أجل الحوار، بحد ذاته، إصلاح ينبغي شكر القيادة السياسية على تبنيه وتذليل كل الصعوبات لتحقيقه. ولكن كيف يجد أي مجتمع طريقة توفق بين حرية الرأي وتقنينه بحيث يكون وسيلة بناء لا معول هدم؟ هذا سؤال صعب، تصعب الإجابة عليه بطريقة شافية كافية في المجتمعات التي اخترعت الصحف وبقية أدوات الإعلام. غير انه هناك حقيقة ثابتة، وملخصها انه لا توجد حرية مطلقة في أي مكان مستقر تحكمه سلطة شرعية. ففي بريطانيا مثلاً تستطيع الصحافة أن تنشر ما تريد بشرط انه إذا رفعت قضية ضد ما نشرته وثبت انها ارتكبت خطأ مقصوداً أو غير مقصود، أي مجرد وجود الخطأ حتى لو كان على لسان مصدر، تعاقبها المحاكم وتعوض المتضررين. أما في أميركا فالمصيبة اكبر على المتضررين، فالصحافة تستطيع أن تنقل أي مزاعم، حتى مزاعم أي مدع، ولا يقدر متضرر على اخذ حقه منها إلا إذا اثبت سوء النية المبيتة من جانب الصحافة التي نشرت المزاعم. وإثبات التعمد والنية المبيتة للإساءة أمر صعب ومكلف مالياً للمتضرر إن لم يكن متعذراً تماماً في اغلب الأحيان. والحل الذي توصلت إليه المجتمعات الصناعية السابقة في هذه المجالات، هو التفريق بين" التأثير"و"الانتشار"وبين الصحف الموضوعية الجادة وبين صحف الصخب والتهويل. ففي مدينة نيويورك - مثلا - تصدر صحيفة"النيويورك تايمز"المؤثرة المحترمة، كما تصدر صحيفة التهويل والإثارة" النيويورك بوست"التي يباع منها نحو ستة أضعاف مبيعات"النيويورك تايمز". ومع ذلك، فإن ثمن الحيز الإعلاني في الصحيفة المؤثرة والأقل انتشاراً يصل إلى نحو عشرين ضعف ثمن الحيز الإعلاني المماثل في السخيفة"البوست". لماذا؟ باختصار لأن المعلنين - وهم الممولون - يفرقون بين التافه والجيد وفقاً لنوع قراء النوعين. القضية ليست قضية عدد القراء وإنما نوعهم. وفي كل المجتمعات، كل ما يمس الأمن الوطني، والوحدة الوطنية، خط أحمر، حتى صحف التابلويد غير المسؤولة لا تتخطاه. والله من وراء القصد. * أكاديمي سعودي