أربعة عقود على كارثة حزيران يونيو 1967. الذكرى المرة تتزامن مع أكثر من "أخت" "فهي تأتي بعد شهرٍ تقريباً على مرور تسعة وخمسين عاماً على النكبة، وما يقارب أربعة أعوام على غزو العراق، وأكثر دلالة ربما، بعد أسابيع على صدور تقرير لجنة فينوغراد الإسرائيلية عن حرب لبنان الأخيرة 2006 و"نصرها الإلهي". كارثة 67 التي أضاعت الضفة وغزة والجولان والقدس الشرقية وسيناء وقلبت ميزان القوى لصالح إسرائيل سُميت تخفيفاً" النكسة"، كأنما هي حالة مرضيةٍ عابرة. موتُ ما يزيدُ عن ألف ومائة إنسان وبنية تحتية مدمرة وقرار لللأمم المتحدة يحملُ حزب الله مسؤولية بدء الحرب ويبعده عن حدود إسرائيل، هُمشت جميعاً ليُذكر فقط ضراو ة مقاتلي حزب الله التي لا تنكر في مقاومة الإسرائيلين. دُفع إلى النسيان أن هذه الحرب الكارثية لم يخطط لها الإسرائيليون ولكنْ قدم سببها حزب الله، كما يؤكد تقرير لجنة فينوغراد. كل هذا سُمي"نصراً إلهياً". خسائرُ الإسرائيليين كانت عشر خسائر اللبنانيين أو أقل، لم يتقدم جنودُ حزبُ الله داخل إسرائيل ولم يُغلق من موانئ إسرائيل الرئيسية إلا واحد في الشمال الذي أضرته الحرب. رغم ذلك كله إنتهت الحرب بنصرٍ سياسي لإسرائيل تمثل بالقرار 1701. وهي لم تحقق أهدافها المعلنة للحرب، لكن نصرَها السياسي أيضاً لم يغفر للقيادات الإسرائيلية عجزها على الأرض أمام مقاتلي حزب الله. ما عرّفته إسرائيل هنا كفشل هو كسر هيبة الردع الإسرائيلي، أي إضعاف قدرة إسرائيل على إرهاب أعدائها. نحن نسمي الكارثة نكسة والحرب ذات التبعات الكارثية نصراً إلهياً، أما هم فيعدون عجزهم عن إختراق أراضي دولة أخرى فشلاً خطيراً، وإختلاف التعاريف يُخبرنا أن قليلاً تغير في أربعين عاماً. لجنة فينوغراد شُكلت بعد شهرٍ واحد على حرب لبنان، أما نحن فقد مضى علينا أربعون عاماً ولا نعرفُ يقيناً ما الذي أدى إلى كارثة حزيران67، لم نشهد لجنة تحقيق محايدة بل تبدو الفكرة هزلية في السياق السياسي العربي ولم يُحاسب شخصٌ ثبتت قطعاً مسؤوليته، بل ثبّت طلبٌ شعبي عارم الرئيس عبد الناصر في مكانه، الرجلُ الذي قال بلسانه إنه يتحملُ مسؤوليةَ الهزيمة كاملةً. لم يكن السيد حسن نصر الله في وضوح عبد الناصر، لكنه اعترف أيضاً بأنه لوعلم برد الفعل الإسرائيلي المدمر على خطف الجنديين لما أقدم عليه. بقي عبد الناصر زعيماً لا يبارى رغم ثلاث كوارث عسكرية 56، حرب اليمن و67. أما السيد صاحب النصر الإلهي فقد أصبح"نصراً من الله". لحزب الله دورٌ بطولي لا ينكر في تحرير جنوبلبنان. لكن تُرى أرفعُ السيد نصر الله إلى مصاف المقدسات يفيد في التعلم مما مضى؟ تفادياً لحروبٍ قد تأتي مع إسرائيل أو إستعداداً لها؟ ربما يواصل الإسرائيليون الفوز علينا، أو على الأقل لا يعانون كوارث عسكرية بحجم ما نعاني، لأنهم أقلُ ميلاً إلى جعلِ قادتهم رموزاً مقدسة، بهذا المعنى ربما كانت كارثة حزيران67 فرصةً ضائعة. التحقق مما حدث صعبٌ بما فيه الكفاية، فما بالك بمحاولة استقراء ما كان ليحدث لو أخذ التاريخُ منحىً مختلفاً. يقيناً، ما هزم في حزيران 1967 لم يكن فقط جيوشاً ودولا، ولا حتى زعيما بعينه، قدر ما كان نموذج حكم وشرعيته التي يدعي. من الصعب أن يصف أحدٌ نظام عبد الناصر بالديموقراطية أو بأنه كان حاكما يخضعُ للمساءلة. ترى لو كان الرجلُ حوسب على ما جر البلاد إليه من هزيمةٍ عسكرية في حرب 1956 إدعاها هو نصراً سياسياً أكان اندفع إلى مستنقع حرب اليمن؟ ولو كان حوسب على تلك هل كان لمصيبة 1967 أن تحدث؟ لو كان الرجل حُمّل من شعبه المسؤولية التي قال إنه يتحملها وحوسب كعبد الناصر الإنسان لا الرمز المقدس، ألم يكن ذلك ليقدم نموذجاً آخر للسياسة في بلادنا، أقرب إلى ذلك الذي يستخدمه العدوالمتفوق عادةً؟ تبعات حرب 1967 لم تكن إلا حالةً متواصلة من إنكار الواقع، مجرد اسم النكسة يحمل تلك الدلالة. إنكار الواقع هو ما ضخّم نصر 1973 كأنما هو قد أزال كل آثار 1967، وهو ما لم يحدث قطعاً. لذلك لا بد ان نسأل، إذا كان ميزان القوى قد انقلب تماماً لصالح إسرائيل في حزيران1967 وبقي على هذه الحال إلى اليوم بإستثناء هزاتٍ قليلة حركت الأمور لكن لم تغير جوهرها مثلاً: حرب 1973 والإنسحاب الإسرائيلي من لبنان. ترى، هل تقررت حتميةُ السلام مع إسرائيل يوم قادنا عبد الناصر إلى كارثة 1967 أم يوم زار السادات إسرائيل بعد ذلك بعشر سنوات؟ العيش في الإنكار بدوره يسلمنا لسلسلةٍ من ردود الأفعال. منا من يرفض أي صيغةٍ للتعايش مع إسرائيل، بحيث يصير كل موقف من أي تواصل معها مرفوضا رفضا هستيريا. لا منطق هنا ولا واقعية. النصر العسكري مستحيل، كيف إذاً نتفادى السياسة ومعها هذا التعايش الذي يفرضه واقعٌ مرير لا فكاك منه؟ لكن رد الفعل على العيشِ الكامل في الإنكار هستيري هوالآخر، فمثلما هناك هستيريا ضد كل تواصل مع إسرائيل هناك أيضاً هستيريا مع التطبيع دون قيدٍ أو شرط، تسليمٌ ضمني بالهزيمة كقدرٍ أبدي ومن ثم تضييعٌ لكل سعي لتحسين شروط التفأو ض في صراع مازال مستعراً. من يوقنُ بعجزه عن فرض شروطه لا بد أن يسلم بالتفاوض، لكن من لا يرى في نفسه سوى العجز ليس له إلا إنتظار ما يُفرض عليه. تحسينُ شروط التفاوض هنا لا يعني بالضرورة إشهار السلاح ولكن يعني حتماً حاجتنا للبحث عن وسائل أخرى لمواصلة الصراع نفسه. لكن بعد أربعين عاما على تلك الهزيمة الكبرى وتسعة وخمسين على النكبة، يبقى الرأي السائدُ في شوراعنا وثقافتنا السياسية أن الصراع المسلح هو السبيل الأوحد لإستعادة حقوق الفلسطينيين: رأيٌ يتلاءم مع حالة إنكار الواقع التي ذكرنا. لكن، سلماً لا حرباً، كم من مجهودنا نركّزه على إبراز مظلومية الفلسطينيين؟ على تقديس ما يستحق التقديس: حق العودة الذي يختزل القضية كلها، لا لإلتزامه العدالة فقط، لكن لأنه يظهر جلياً الفكرة الصهيونية برمتها كجريمة. ربما لن يرغب كل اللاجئين في العودة، ربما يتسنى ثني بعضهم، لكن ماذا يتبقى من القضية الفلسطينية دون هذا الحق؟ ساحة الصراع هنا ليست أقل صعوبةٍ من ساحات الحروب. هم استثمروا المحرقة لتبرير خلق كيانٍ على أرضٍ مغتصبة رغم أن المحرقة متأخرة عقوداً على فكرة إنشاء إسرائيل. نحن فشلنا إلى الآن في إبراز الأهمية الكاملة للحقيقة البسيطة: أن الضحيةَ أصبح جلاداً. لا العمليات الإنتحارية التي تستهدف المدنيين عشوائياً ولا العداء لليهود أو الإنكار الأخرق للهولوكوست يخدمُ موقفنا. مع عجزنا العسكري شبه الكامل، ساحة حربنا الأساس لا بد ان تنتقل إلى الرأي العام، الساحة نفسها التي سادها الصهيوني عقوداً، حيث من البديهي أن أو ل ما نحتاجه هوالتعلم من عدونا. لكن حتى لمن لا يرون إلا السلاح وسيلةً وحيدة للتعامل مع إسرائيل: هل يمكن فصل هزائمنا المتكررة، أمام الإسرائيليين وغيرهم، عن طبيعة أنظمةٍ عربية وعلاقتها بشعوبها؟ مصيبة العراق في 2003 لم تكن فقط الغزوالأميركي، بل أن بلاد الرافدين كانت مخيّرةً بين إستمرار طغيانٍ بشع أو سيادة أجنبي: الأو ل أفضى إلى الثاني. ربما لوأننا لم نجعل من صاحب"النكسة""زعيماً خالداً"لما وصلنا إلى"حامي البوابة الشرقية"صاحب"أم المعارك". فرضية تتطلب منا بدورها ان نبرأ من كل فهمٍ للقومية عموماً والعروبة خصوصاً، بل للسياسة، يشرعن غياب الديموقراطية. حتى يحدث ذلك نبقى أهلاً للهزائم والمغامرات الكارثية. * كاتب مصري.