يترك توني بلير رئاسة الحكومة البريطانية اليوم، وأقول مع ألف سلامة ولا ردّه الله، ويخلفه غوردون براون، وأتحفظ في إبداء رأيي بانتظار أن أرى عمله. كان بلير خدعني سنتين أو ثلاثاً، وصدقت كلامه حتى رأيت أفعاله، ولا أريد أن أُلسع من جحر 10 دواننغ ستريت مرتين، فالإنكليزي يحاسب رئيس وزرائه لأسباب أكثرها داخلية، وأنا أحاسب على سياسته الخارجية قبل غيرها. السياسة الخارجية البريطانية في سنوات بلير العشر عكست تبعية كاملة للسياسة الأميركية، بدأت مع بيل كلينتون واستكملت مع جورج بوش، وانتهى بلير وهو يحمل لقب"كلب بوش المدلل"، مع أنه أذكى من الرئيس الأميركي بكثير، وكان يفترض ان يقوده لا أن يتبعه، فكانت الغلطة التي لطخت كل إنجاز آخر. لو كان إنجاز توني بلير الوحيد هو حسن أداء الاقتصاد البريطاني في السنوات العشر الأخيرة لكان إنجازاً كافياً، ولو كان إنجازه التسوية في أيرلندا الشمالية التي عجز عن مثلها رؤساء الوزارة السابقون على مدى عقود لكان أيضاً إنجازاً كافياً. غير ان إرث بلير هو الحرب على العراق، وهو إرث أسود، من دون أن أنسى له شخصياً وقوفه الذليل مع إدارة بوش في مقاومة وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله 33 يوماً في الصيف الماضي، حتى انتهت المواجهة بخسارة إسرائيل. الكذبة الكبيرة المستمرة على جانبي المحيط الأطلسي هي فشل أجهزة الاستخبارات التقليدية في تقديم معلومات صحيحة عن عراق صدام حسين قبل آذار مارس 2003. غير اننا الآن بحوزة معلومات تراكمية هائلة تثبت ان الأجهزة لم تفشل، وإنما كذبت إدارة بوش وحكومة بلير في شكل متعمد لا بد من ان يصل يوماً إلى حد المساءلة القانونية لتبرير الحرب، على رغم فيض معلومات الاستخبارات المتوافرة لهما، وليس لنقص المعلومات. يبدو لي شخصياً ان مسؤولية بلير عن التلاعب بالمعلومات أكبر من مسؤولية بوش، فهذا جاهل يمكن خداعه بعكس بلير الذكي الذي يخدع الآخرين. والجميع أصبح يعرف عن الملف المضخم الذي صدر في 24/9/2002 وحمل العنوان"برنامج العراق لأسلحة الدمار الشامل: تقدير الحكومة البريطانية"، وهو الملف الذي فضحت هيئة الإذاعة البريطانية زيفه، ودفعت الثمن بدلاً من بلير. حكومة بلير زعمت ان الملف هو القول الفصل في موضوع صدام حسين وأسلحة الدمار الشامل، إلا أننا اكتشفنا مع البريطانيين في وقت لاحق ان الملف ناقص تقديرات الاستخبارات السابقة، ففي آذار 2002 قررت لجنة الاستخبارات المشتركة التي تقدم معلومات مجموعة من مختلف أجهزة الاستخبارات البريطانية ان صدام حسين لا يمثل خطراً أكبر مما كان عليه سنة 1991 بعد انتهاء حرب تحرير الكويت. وناقض الملف كذلك رأي موظفي استخبارات الدفاع في تقرير بتاريخ شباط فبراير 2002 تحدث عن اتصالات بين صدام حسين والقاعدة وقرر انها غير مهمة لانعدام الثقة بين الجانبين والخلافات العقائدية. بل ان لجنة الاستخبارات المشتركة أعلنت صراحة أن لا توجد أدلة جديدة على علاقة العراق بالإرهاب الدولي ولا تبرير بالتالي لعمل ضد العراق على أساس خطر إرهاب داهم كما هي الحال في أفغانستان. هذا كله سبق الملف الملفق، والمعلومات في رأيي كافية لتحويل بلير على المحاكمة، فقد تجاوز عدد القتلى من الجنود البريطانيين 150 رجلاً وامرأة في حرب غير مبررة. قرأت عشية خروج بلير من 10 دواننغ ستريت عرضاً طويلاً لكتاب جديد من تأليف المفكر جون غراي بعنوان"القداس الأسود: الدين الدنيوي وموت المثالية"وهو يشرح توكؤ بلير، مثل بوش، على حدسه، لا المعلومات في اتخاذ قراراته. والمؤلف يقول:"ليس الأمر ان بلير يقتصد في قول الحقيقة بقدر ما انه يفتقر إلى القدرة الطبيعية على فهمها. بالنسبة إليه الحقيقة هي ما يناسب قضيته". ما يناسب قضيتي هو ان يرفع الغطاء نهائياً عن جناية بلير بحق شعب العراق ولبنان، والفلسطينيين. ولعل الباحث البريطاني كريس ايمز ينجح من حيث فشل الآخرون، فهو يتابع بإصرار عجيب موضوع تلفيق معلومات أسلحة الدمار الشامل، وقد استعان بقانون حرية المعلومات لانتزاع وثائق من الحكومة، وبما ان الحكومة تقاوم على كل خطوة من الطريق، فإن هذا دليل كافٍ على ذنبها، فلو كانت بريئة لما قاومت، وآخر ما قرأت هو ان وزارة الخارجية استأنفت ضد أمر بالإفراج عن الوثائق المطلوبة، فننتظر لنرى إن كانت ستنجح في كتم الذنب أو ينتصر كريس ايمز وشعب العراق معه. إذا كان من ذنب فهو ذنب بلير وحده، وهو مرشح الآن ليصبح مبعوث سلام إلى الشرق الأوسط بدعم من المجموعة الرباعية، يعني بوش، وأقول ان لا ثقة لنا به. أما رئيس الوزراء الجديد فيأتي وصفحته بيضاء في السياسة الخارجية، فقد ركز جهده كله على الاقتصاد وكان نجاحه فيه واضحاً. ولعل وجه الشبه الوحيد بين رئيسي الوزراء الخارج والداخل في السياسة الخارجية جاء صدفة، فقد كان اللورد ليفي المسؤول الأول عن جمع التبرعات لحزب العمال، وجعله بلير وسيطه في الشرق الأوسط. واليوم نسمع ان السير رونالد كوهن قد يصبح مسؤولاً عن جمع التبرعات للحزب في رئاسة براون، والأرجح أن يعمل أيضاً ممثلاً لبراون في الشرق الأوسط. ليفي وكوهن يهوديان، إلا ان هذا لا يعني أي سلبية، وكنت أعرف اللورد ليفي وأجده معتدلاً، ويمكن عقد سلام معه أو عبره، ولعل السير رونالد يمارس سياسة مماثلة. والغريب ان الشبه يتجاوز الدين أو السياسة، فاللورد ليفي كان طرفاً في فضيحة لم تنته عن جمع تبرعات بطريقة غير قانونية، والسير رونالد يجد نفسه وهو لم يكد يبدأ أمام تحقيق رسمي مع مؤسسة خيرية يرأسها، هي بورتلاند ترست، التي تروج"للسلام والاستقرار بين الفلسطينيين وإسرائيل". اليوم لن أبدي أي رأي من عندي، وإنما أنتظر الأفعال فهي تتكلم عن نفسها.