عاد الشعراء العرب مرة أخرى إلى مهرجان الشعر العالمي في دورته الثامنة والثلاثين في مدينة روتردام بعدما غابوا عنه في السنتين الماضيتين، ممثلين بالشاعر العراقي سركون بولص والشاعرة المصرية فاطمة ناعوت، إضافة إلى اثنين وعشرين شاعراً من أميركا وأوروبا والصين واليابان مع احتفاء خاص بثلاثة شعراء من القوقاز. المهرجان الذي بدأ في السادس عشر من الشهر الجاري وانتهى في الثاني والعشرين منه قدم الشعراء في يومه الأول إلى الجمهور الهولندي الذي ملأ القاعة الكبيرة في المسرح الملكي بكلمة مستلة من قصائد الشعراء أنفسهم، محاوراً إياهم عن السبب الذي يجعل هذه الكلمات أثيرة عندهم. أطرف لحظة في المهرجان جاءت عندما حان دور الشاعرة التايوانية الشابة يي ميمي كي تقرأ قصيدتها، فبدت قصيرة للغاية ما اضطر مقدم البرنامج إلى وضع صندوق خشبي تحت قدميها كي تصل إلى المايكروفون. سركون بولص الشاعر العراقي المتمرد على السادة في كل زمان ومكان اختار كلمة"السيد"قبل إن يقرأ قصيدته التي تصف"السيد"الأميركي العطش الذي جاء ليشرب ماء دجلة والفرات"السيد"الأميركي الجائع الذي جاء ليأكل أطفال العراق. عقدت هذه الدورة تحت عنوان"الشعر والجنون"وتضمنت اضافة إلى الشعر محاضرات كثيرة وعروضاً مسرحية وموسيقية وترجمة للشعر، وتمحورت كلها تحت هذه الثيمة التي طغت على أيام المهرجان، وقد بدا أكثر صرامة وجدية من دوراته السابقة. الشاعر مينّو فخمان الذي نشر كتاباً بعنوان"المؤسسة الاجتماعية"عن تجربته الشخصية وحياته التي أمضاها في مصح في قرية دن دولدر قدم محاضرة بعنوان"قصيدة خارج المصح"تحدث فيها عن الخيط الرهيف الفاصل بين الإبداع والاختلال العقلي والجنون، والدور الذي يلعبه الحزن والكآبة في تعزيز كلٍّ منهما. أما الشاعر والروائي روخي فايخ الذي قام بمحاولة انتحار فاشلة قبل سنوات فتحدث في شهادته التي جاءت بعنوان"الحب وظيفة ثقيلة"عن تجربة الفشل في العمل الإبداعي وكيف تقود في النهاية إلى المالنخوليا التي تقود بدورها إلى الجنون أو الانتحار. أما بقية المحاضرات فتناولت تجارب بعض الشعراء المنتحرين والمجانين أو الشعراء المكتئبين كدراسة تطبيقية وتأمل في هذه التجارب الفريدة من نوعها مثل سيلفيا بلاث، هانز فليك، وليوبولد ماريا بانبيرو. طلاب معهد آرنم المسرحي للتمثيل ارتدوا أزياء الملائكة وانتظروا الجمهور الداخل والخارج كي يقودوه إلى ممراتهم ذات الأضواء الكابية ويلقوا على مسامعه قصائد تثير الفزع واليأس والحزن. اختاروا قصيدة الشاعر الهولندي المجنون يان ارندس عنواناً لورشتهم"الرجال ذوو الملابس البيضاء قادمون وسيأخذونني معهم"وقد اعدوا ممرات ضيقة مظلمة يستدرجون الجمهور إليها كي يكون الطقس الشعري المالنخولي كاملاً. واستمع الجمهور إلى قصائد كابوسية كتبها شعراء منتحرون أو شعراء ملعونون او مجانين الطبيب صنع من يده أذناً هائلة، علامة على انه أراد أن يفهمني، أصغي إلى ألمي، لذلك صرخت بحزن كي اجعله يضحك، لكنّ ذلك لم ينفع لأنه أطرش. قصائد مثل هذه جعلت الجمهور يهرب من الممرات الضيقة المعتمة التي يقف على فتحاتها شباب بثياب الملائكة المتربصين بالأحياء إلى القاعة الكبيرة حيث الشعراء بلحمهم ودمهم وهم يقدمون أقصى تجاربهم المرة بقلوب مفتوحة. من جورجيا وأرمينيا وأذربيجان، تلك المناطق التي تفصل أوروبا عن آسيا جاء هؤلاء الشعراء بلغاتهم السرية الهادئة ولكن الغامضة حتى في الترجمة، قرأوا نصوصهم بلغاتهم الأم وانزووا بعد ذلك وحيدين لأنهم لا يجيدون غير هذه اللغة. لم يتواصلوا مع شعراء أوروبا الذين يجيدون أكثر من لغة، وكانوا غرباء في هذا المهرجان الذي ترجم قصائدهم إلى الانكليزية والهولندية كي يتابعها الجمهور. لم تجر معهم المقابلات ليدلوا بآرائهم حول الشعر وضاعت فرصة كبيرة لمعرفة شعر هذه المنطقة المنسية بين الشرق والغرب. حتى أنّ أحدهم حاول عبثاً الحديث مع الشاعر سركون بولص معتقداً بأنه يفهم لغات هذه المنطقة، إلا إن سركون اسقط في يده ولم يستطع أن يفعل شيئاً لأنه لم يفهم أي شيء مما قاله هذا الشاعر الغريب سوى كلمة"السلام عليكم". اليوم الرابع للمهرجان كان حافلاً بالشعر والترجمة والسينما والمقابلات. في البداية قرأ الشاعر الانغولي ذو الأصل البرتغالي دورت دي كرفالو نصوصاً تستلهم التراث الأفريقي الأسطوري بطقوسه الاكزوتيكية التي تبهر المستعمر القادم من ثقافة أوروبية بيضاء مستقرة ومهيمنة. وكانت نصوصه جريئة في الكشف عن الهزيمة التي حلت بالمستعمر في نهاية الأمر، حيث سيبحث الملك الخاسر عن مأوى له بعد الهرب من المعركة الأخيرة. ثم تلته الشاعرة المصرية فاطمة ناعوت قارئة مختارات من شعرها. الشاعر الثالث في الجلسة الأولى لهذا اليوم كان السويدي لينارت سيوكرن الذي قرأ نصوصاً مفعمة بنزعة تأملية وفلسفية وذات صور شعرية مبتكرة وتتخذ من الطبيعة والماء تحديداً موضوعاً لها تبعاً لعيشه في جزيرة صغيرة معزولة في الشمال السويدي. وشكل مع الأميركي ذي الأصل الصيني من الجيل الثاني آرثر سزي والفرنسي المخضرم يفز بونيفوي والعراقي سركون بولص الأعمدة التي حملت المهرجان الجميل حتى النهاية وساهمت كثيراً في نجاحه وفق الجمهور الهولندي الذي حرص على اقتناء كتب هؤلاء الشعراء من معرض الكتاب الذي افتتح مع المهرجان. ضمت الجلسة الختامية الشاعرين الهولندي كارل ميخيل قارئاً نصوصاً هزلية أضحكت الجمهور الذي استمع من ثم إلى الشاعر العراقي سركون بولص يقرأ نصوصاً في غاية العذوبة والقسوة والحزن، جعلت الجمهور يصفق له طويلاً وسط تأوهات بعض العرب والعراقيين الذين حضروا المهرجان:"اللاجئ المستغرق في سرد حكايته/ لا يحس بالنار عندما تلسع أصابعه السيجارة". تتميّز نصوص بولص التي قرأها في المهرجان بالعمق والكثافة والوضوح وبلغة مقتصدة شديدة التركيز وذات طابع رمزي اقرب إلى الإيحاء منه إلى الإفصاح"رجل حاول أن يكون العازف على قيثارة الآلهة/ سقطت أصابعه في البار بين أقدام العاهرات". ويذكر أن أحد الناشرين الهولنديين طلب من الشاعر أن ينشر له مختارات باللغة الهولندية تصدر في نهاية هذه السنة.