طيلة حياتي الأدبية التي تجاوزت الأربعين عاماً، لم ألتقِ بشاعر متجرّد، زاهد، متصالح مع نفسه مثل الشاعر سركون بولص. إنه مثال الشاعر الحقيقي الذي كان سائداً في الحِقب الرومنطيقية والرمزية، أي الشاعر الخالص والصافي، المكتفي بالشعرية وحدها. يعيش وكأنّه يقول: «أجل بالشعر وحده يحيا الإنسان/ الشاعر». كان سركون بولص الذي تحلّ الآن ذكراه السابعة يجمع ميّزات عدة تجعل منه الشاعر المثال، الناصع الخالي من أمراض الشعراء وأمراض الثقافة العربية، وهي كثيرة. وربما يزعج مثل هذا الكلام بعض الشعراء اللامعين على حساب الشعر. أولئك الذين جعلوا من الشعر هدفاً ومراماً لتمشية أحوالهم وتمرير أشغالهم على الهيكل العظمي للشعر الفقير والمنتهك الذي لا يملك سوى المعاني الكبيرة. والحقيقة أنّ سركون بولص كان هو قلب المعنى، والستر الجميل والدافئ لهذا الهيكل الفقير، هو ومن يقفون في مصافّه، أو من يُسمّون «القلة السعيدة»، كما عبّر يوماً ستاندال. إنّه من طينة الشعراء الناصعين، شعراء البراءات الأولى والمُثُل البكر، الشعراء الخام الذين لم يغرِهم لمعان الذهب والدينار ولم تعمِ بصيرتهم بروق الشهرة. ظل متواضعاً في صومعته الجمالية ومحترفه الخيالي، لم يمد يده لهذا وذاك مستجدياً المال والبريق، بل بقي محتفظاً بدهشة الشاعر، بفطنته البيضاء وحكمته السابغة والدالة وشعره النبيغ «جننتُ من الإفلاس والمحبّة». كان سركون بولص، مثل شعراء التروبادور، أو الشعراء الملاعين، يطارد الشعر في محطات العالم... في المدن البعيدة والمجهولة، في الحانات الغامضة، في المقاهي البحرية والشرفات المطلة على الشمس والفتنة، في الأرصفة التي يضربها البرق والرعد والمطر، حاملاً كيسه الخيش (حقيبته)، وفيه يدفن قصائده الورقية المجعّدة والملطخة بقطرات الشاي والقهوة والنبيذ. وتحت ضوء الصباح، يفتح هذا الكيس منتقياً احداها ليعدّل فيها، أو يقرأها عليك، مستعيداً عبرها الدهشة والطفولة البعيدة والتلال الراكعة تحت ضباب المجهول، والنسيم الهاب من الأساطير، أساطير سومر وأكاد وبابلون. فيبرع سركون وهو يحوّل الأسطورة الى واقع، هذا الواقع قد يكون واقعك أنتَ، أنت المتحدّر من تراب الغموض والأبدية. فيحيلك الى نفسك من دون أن تدري، حتى تحسّ كأنك تصغي إلى دبيب الأزمنة وهي تجول في دورتك الدموية. قد تجد نفسك مباشرة في حدائق بابل، مخترقاً شارع الموكب، محاطاً بالسحر وعبق الميثولوجيا، وهي تؤجج عبيرها قرب أسوار أوروك ومحيط أريدو. رجفة تسري في مخيلتك حين يذكر تلك التلال الأولى، وهو الشاعر المترحّل الذي ينتسب إلى شعراء التروبادور الفنية، أو يتحدر من أرومة الشعراء الضالين كامرئ القيس وشعراء الرفض والاحتجاج في أميركا، هو المسافر اليهم والملتقي ببعضهم، بل سليل هذه الأنماط التي أحبّها يوماً: ألن غينسبرغ، لورانس فرلنغيتي، غريغوري كورسو، جاك كيرواك، نيل كاسيده، وليام بوروز، أو الأشقاء الآخرين من سلالة الدم الأسود والأزهار الشريرة كبودلير ورامبو، ومن تناسل من هذه السلالة ليغيروا خريطة الشعر في العالم كبروتون وإلوار وأراغون وسان جون بيرس وبريفير وماكس جاكوب وتريستان زارا، شعراء المغايرة والاختلاف والافتراق والقطيعة مع ما مضى. نبرة فريدة لقد خبر سركون كل هؤلاء، ولم يقع ضحية أحد منهم أو فريسة هذا الشاعر أو ذاك، إنما صاغ صوته الخاص والنادر، ونسجه بعناية. ففي أوائل السبعينات، قرأنا له قصائد باهرة، نسج نبرتها الفريدة، في مجلة «العاملون في النفط» (كان يشرف على صفحاتها الثقافية جبرا ابراهم جبرا)، وكانت تلك القصائد هي تجاربه الأولى واللافتة. وحين وصل الى بيروت ساعده يوسف الخال وأدونيس، علماً أنّ الخال كان يهتم بتقديم الاصوات الجديدة ، فنشر له قصائد كتبها في بيروت وترجمات من الشعر الأميركي، إضافة إلى قصائده البغدادية، والكركوتلية (نسبة الى كركوك، المحافظة العراقية التي كانت عائلة سركون تسكنها). ومن ثم نشر قصائده الواعية والمتفاعلة بشكل عام مع تحوّلات الشعر الأميركي الراديكالي والمسكون بحس التمرد والمروق والمخالفة. وقد ظهرت هذه القصائد في مجلة «الكلمة» العراقية لصاحبها النجفي حميد المطبعي، ومجلة «مواقف» اللبنانية لصاحبها أدونيس، حيث نشر «آلام بودلير وصلت» و «إرشادات في الطريق الى الجمرة» و «مسافرون في اللحظة التالية» و «دليل مدينة محاصرة» و «عرّاف أور»، وغيرها من القصائد المهمة التي كانت تلفت حساسيتنا الشعرية الى أنّ صوتاً جديداً يحلّق في عالم التجديد الشعري كنسر يريد الانقضاض على منجز الشعر العربي الذي باتت تنقصه التعابير الجديدة والمعاني الدلالية المختلفة. في تلك المرحلة، كان سركون يتقدّم ولكن من دون إصدار، ولو واحد على الأقل. فهو لم يكن عجولاً البتة حتى في طريقة حياته، كان بطيئاً ويتلكأ في السير، وفي الطعام والشراب كان متأنياً أيضاً. قصة الديوان الأول مرّت السنون، وكنت حينها في نيقوسيا، العاصمة القبرصية، والحديث في أواسط الثمانينات يوم ارسل إليّ حسين الحلاق، صاحب دار «الكلمة» في قبرص، ديوان سركون الأول «الوصول الى مدينة أين»، غير أن الحلاق لم يصدره بسبب تعثر الدار في قبرص بعد رحيلها عن بيروت. فأعطاه الى سعدي يوسف كي يطلع عليه، وكان الديوان على شكل «بروفات» أولية مصفوفة. كان سعدي يأتي بديوان بولص ليقرأ علينا تلك الأشعار الجميلة والمثقلة بالحنان والعذوبة. وبعد مضي قرابة السنتين، صدر ديوان سركون حاملاً العنوان اللافت اياه، في العاصمة اليونانية أثينا عن «منشورات سارق النار». ومن ثمّ التقيت بسركون بولص في أواسط التسعينات في لندن، وكانت تبدو عليه سمات اللمعان والنجومية، خصوصاً بين كتاب قصيدة النثر، وكان وقتها قد أصدر ديوانه الثاني عن دار «توبقال» في المغرب (يديرها الشاعر القدير محمد بنيس)، وكان هذا الديوان لا يقل مستوىً في جماله الفني عن الأول. ومن ثم لاقى الدعم الأكبر من الشاعر خالد المعالي صاحب دار «الجمل» الذي طارده وألحّ عليه بغية إصدار أشعاره وترجماته وقصصه المميزة التي كتبها في بغداد في فترة الستينات، والتي كانت تشي بقاص لامع يكتب بنبرة مفارقة للسائد القصصي في العراق حينذاك. وهذا الحكم يردّده كثيرون من مجايليه من أدباء الستينات. من هنا وبتأثير من صديق يُحبّه ويقدّر معاني أدبه وفنه، صدر ديوان «الأول والتالي» ومن ثم «حامل الفانوس في ليل الذئاب»، وتسمية الديوان جاءت باقتراح مني، بعدما كان يحمل عنواناً مختلفاً، وبعدها صدر ديوانه البديع «إذا كنت نائماً في مركب نوح» ليختتمها بعمله الشعري المبهج والأخير «عظمة أخرى لكلب القبيلة»، وكلها صدرت عن دار» الجمل»، إضافة إلى ترجمات شعرية لشعراء عظام، صدرت عن دار «الجمل» بعد رحيله المباغت، وهي لغينسبرغ وأودن وميروين... وقد صدرت بعض قصصه أيضاً بالألمانية. كانت لقاءاتي بسركون في لندن، لقاءات شاعرية حقاً، في المقهى أو في الحانة، أو عندي في البيت، أستعيد معه تاريخ الشعر العالمي والعربي. كانت ثقافته الشعرية واسعة ومتشعّبة بحكم إقامته الطويلة في سان فرانسيسكو، وتشبّعه باكراً بتلك الأشعار الأنكلوساكسونية، من غير أن تفارق ذائقته الفنية التراث الشعري العربي. فكان يُحب الكثير من شعرائه ويحفظ قصائد بعضهم ويفيد من مطالع قصائدهم مثل بشار بن برد وأبي نُواس وأبي الطيب المتنبي والنابغة الذبياني، فضلاً عن السلاسل الذهبية الأخرى من الشعر العربي، مضيفاً اليها كوكبة من الشعراء الصعاليك والمغمورين في العصرين الأموي والعباسي. في لندن كنت أذكره في أماكن هي دساكر عراقية مثل «القوش» و «تلكيف» و «برطلة»، كان يفغر فاه ويقهقه لكوني أعرف هذه الأماكن المسيحية في الموصل والغارقة في البعد والنسيان، ويقول إنه يراها نوعاً من الأساطير الواقعية، ولكنه كان ايضاً يشيح ولا يريد أن يتذكر الفائت مما مضى: «أيها الماضي، أيها الماضي، ماذا فعلت بحياتي؟». كان سركون بولص الذي جاء خفيفاً الى الحياة كنسمة، ذهب بخفّ من الهواء، لنفتقد بعد ذلك شاعراً كان أيقونة جيل كامل، جيل الستينات.