كان ياسر عرفات رمزاً لإنتقال زمام القضية الفلسطينية بعد هزيمة 1967 من أيدي الأنظمة العربية إلى أيدي الفلسطينيين. وتمثل النجاح الأكبر لأبي عمار وقيادته في وضع القضية الفلسطينية على الخريطة السياسية العالمية في الفترة الممتدة بين عامي 1974 و1989 إلى جانب قضايا ملتهبة مثل قضية الفصل العنصري في جنوب افريقيا وقضية أفغانستان بعد الغزو السوفياتي لها. إلا أنه لم يستطع ترجمة ذلك على صعيد الخريطة الجغرافية لفلسطين في فترة مابعد انتهاء الحرب الباردة فيمااستطاع الأفغان تحقيق أهدافهم كنتيجة لتداعي الكتلة السوفياتية، وكذلك نيلسون مانديلا بحكم انتهاء الكثير من وظائف نظام الفصل العنصري الاقليمية عند الغرب في أنغولا وموزامبيق ضد الإمتدادات السوفياتية-الكوبية في القارة السمراء رغم أن"أزمة الكويت"وحرب1991، قد أعطتا المؤشرات على تقلص وظائف اسرائيل عند المعسكر الغربي، عندما مُنعت من المشاركة في حرب رسمت ملامح المنطقة القادمة وأُجبرت على الدخول إلى مؤتمر مدريد الذي كان من الواضح أنها ستدفع عبره، وعبر لواحقه، فاتورة"التسوية"كثمن لتلاقٍِ عربي-أميركي على أزمة اقليمية كبرى، وكثمن لتصور أميركي جديد للمنطقة كان يرى في"التسوية"آنذاك مدخلاً إلى تنظيم أوضاع"ملائمة"للقطب الواحد في الشرق الأوسط على الأصعدة السياسية-الأمنية-الاقتصادية وربما الثقافية. كان وقوف عرفات مع صدام حسين في تلك الأزمة عائقاً أمام القدرة الفلسطينية على استثمار هذا الوضع الجديد، رغم أن"الإنتفاضة الأولى"استطاعت، بين 1987 و1989،أن تضع القضية الفلسطينية على صفيح ساخن في نظر العالم الدولي وخاصة في الغرب، وهو ماذكَر بوضع منتصف السبعينات عندما كان غرق منظمة التحرير الفلسطينية في أتون الحرب الأهلية اللبنانية عائقاً أمام تثميرها نتائج مؤتمر الرباط وماتبعه في الشهر اللاحق تشرين ثاني/نوفمبر 1974 من خطاب عرفات في الأممالمتحدة واعتراف المنظمة الدولية بمنظمة التحرير عضواً مراقباً فيها. أمام ذلك ،اختار أبوعمار حلاً انفرادياً، كان بمعزل عن"مدريد"، وهناك الكثير من المؤشرات على أنه أيضاً كان بعيداً عن الخيارات الأميركية. وقد تمثَل في"اتفاقية أوسلو"للخروج من المأزق الفلسطيني، الذي كان يتعلق أساساً بعلاقة متوترة للقيادة الفلسطينية مع"القطب الواحد"على إثر أزمة الكويت، وبخوف فلسطيني من تسويات عربية انفرادية تترك الفلسطينيين وحيدين، أكثر مما يتعلق بوضع القضية الفلسطينية على الخريطة السياسية الدولية، حيث كان من الواضح منذ مدريد بأن الإدارة الأميركية كانت تعي أن القضية الفلسطينية هي مفتاح الحل والإستقرار في المنطقة. وهو ما أعطى مؤشرات على أن ذلك سيترجم لاحقاً على صعيد الجغرافيا ،الشيء الذي كان يشكل هاجساً ضخماً لإسحق شامير في مدريد، ثم لرابين الذي حاول اتقاء ذلك عبر حركات تكتيكية للعب على المسارات العربية بين صيفي1992 و1993. من البداية، كان واضحاً أن"اتفاقية أوسلو"، في 13 أيلول سبتمبر 1993، لن تقود إلى شيء على صعيد الجغرافيا، حيث اقتصرت على سلطة إدارية في القطاع والضفة لم تتجاوز ما كان للمرحومين رشاد الشوا وكريم خلف في غزة ورام الله بالسبعينات، كما كان واضحاً بأن استراتيجية اسحق رابين، بين 1984 و1988 حين كان وزيراً للدفاع، حول تشجيع أواغماض العين عن نشوء تعبير سياسي جديد ينبثق من رحم الحركة الإسلامية، قد أتت أُكلها عندما أصبح هناك وضع أصبحت فيه القضية الفلسطينية تقاد برأسين منذ النصف الثاني للتسعينات، وإن كان ظل ياسر عرفات وثقله المعنوي وشخصيته الكاريزمية قد وفرت غلالة غطت على ذلك حتى يوم وفاته. لذلك، كان من الطبيعي أن ينفجر أو ينكشف ذلك كله في مرحلة ما بعد وفاة ياسر عرفات، وخاصة إثر فشل مسار أوسلو في تحقيق شيء للفلسطينيين طوال عقد من تاريخه، وبعد أن فشلت"الإنتفاضة الثانية"، وكذلك بعد أن فشلت القيادة الفلسطينية في التخفيف من آثار 11 أيلول على القضية الفلسطينية بعدما نجحت اسرائيل في اقناع الغرب على ضفتي الأطلسي بأن ما كان يحصل للمدنيين الاسرائيليين عبر"العمليات الإستشهادية"لم يكن مختلفاً عما حصل للمدنيين الأميركيين في البرجين. من هنا، كان الانسحاب من غزة قبل عامين"هدية مسمومة"للفلسطينيين، وليس هروباً كما ادعى البعض. وهو شيء كان واضحاً الميل إليه في الثمانينات عند رابين وبيريز إلى أن طبقه شارون في 2005، فيماأعطت طريقة إدارة الفلسطينيين للمناطق المنسحب منها، عبر المثال الغزاوي، صورة كانت عناوينها الرئيسية الفوضى الأمنية والفساد ونقص الكفاءة وتضارب الصلاحيات في سلطة هي أقرب إلى مربعات أمنية وميليشيات منفصلة. وهو ما ازداد واستفحل مع فوز"حماس" في الإنتخابات. عاشت فلسطين في ظل عقليتين: واحدة تتجه نحو"التسوية"مع اسرائيل من دون ذهنية عرفات السياسية التي ترى في موازين القوى طريقاً إلى التسويات، وأخرى لونها الأخضر يحمل نفس عقلية أصحاب اللون الأحمر من فلسطينيي أواخر الستينات الذين كانت"الجملة الثورية"واللاءات برنامجهم وأسلوبهم، مع شيء جديد عند"حماس"هو مجموعة من الإرتباطات الإقليمية التي تسيِّر الكثير من أجنداتها، والتي ربما لم تخرج سيطرتها الأخيرة على غزة عن ذلك من حيث كونها تهدف إلى انشاء حقائق جديدة على الأرض تمنع أبومازن من عقد تسوية جديدة، تسوية بانت مؤشراتها الأولى عبر الموقف الجديد لدى بوش وأولمرت حيال"المبادرة العربية"، وهو ما لايمكن عزله عن الأجواء الإقليمية التي تعطي مؤشرات"تسوية"للعرب ومؤشرات"حرب"مع طهران، في عملية مترابطة ومتسقة الملامح في الاستراتيجية الأميركية الراهنة حيال المنطقة. والآن، من الواضح أن مرحلة جديدة بدأت يوم 11 حزيران 1967، كان عنوانها"فلسطنة الصراع"، بعد تعريبه منذ حرب 1948، قد انتهت تحت أقدام"كتائب القسام"، وهم يجتاحون مقارّ السلطة الفلسطينية في غزة خلال الأسبوع الثاني من حزيران 2007: فإلى أين سيقود كل ذلك؟. * كاتب سوري.