كان كل شيء مُعداً لتنفيذ عملية اغتيال الرئيس العراقي صدام حسين منتصف عام 1992. واقفل الجيش الاسرائيلي كل الطرق المؤدية الى تزيليم - بيت، المكان الذي اختير لتمثيل الواقعة قبل الشروع بتنفيذها على الأرض العراقية بواسطة وحدة من الكوماندوس تابعة ل"سيريت متكال". وقف رئيس هيئة الأركان إيهود باراك أمام كبار ضباط شعبة التخطيط وقادة البحرية والطيران والاستخبارات العسكرية، ليشرح لهم على الخريطة موقع انطلاق المروحيتين من قاعدة "انجيرلك" التركية المتاخمة لحدود العراق… الى نقطة نائية خفية قبالة مدينة زاخو. وأشار بعصاه نحو قائد الاستخبارات العسكرية معلناً ان هذه العملية لن تبدأ قبل التأكد من وجود صدام حسين في بلدته "العوجة" بمحافظة تكريت. وعاد الجنرال باراك ليجلس في مكانه وسط صف طويل من الجنرالات، ثم يطلب من قائد وحدة الكوماندوس تمثيل الجزء العملي من خطة الاغتيال. واندفع خمسة من المغاوير نحو منصة الصاروخ المفترض ان يكون موجهاً نحو قصر صدام حسين. وبدلاً من ان ينطلق الصاروخ في الفضاء، انفجر في أرضه ممزقاً أجساد الجنود الخمسة، ومصيباً بشظاياه عدداً من جنود الحراسة. وصدرت في اليوم التالي جريدة "يديعوت أحرونوت" لتنشر في صدر صفحتها الاولى خبر الانفجار، متهمة القيادة بالاهمال لأن الصاروخ غير المُختبَر كاد ان يقتل كل ضباط هيئة الأركان بمن فيهم رئيسهم الجنرال باراك. وكتبت عنه تصفه بالتقاعس والتخاذل والارتباك امام الحادث المفاجئ الذي تركه مسلوب الارادة، كأن غبار الحفرة التي حفرها الصاروخ أعمى بصره وبصيرته. وعلى الرغم من الايضاحات التي قدمها للجنة التحقيق، الا ان الرأي العام الاسرائيلي لم يغفر لباراك فشله في معالجة ظروف الحادث، معتبراً انه اخفق في المهمة التي انيطت به. بعد مرور فترة قصيرة على عملية تزيليم - بيت، جرت انتخابات الكنيست الثالثة عشرة صيف 1992، وفاز اسحق رابين برئاسة الحكومة. وعندما استقال وزير الداخلية عوزي برعام من الوزارة بسبب خلافه مع رئيس الوزراء خريف 1995، تم تعيين إيهود باراك مكانه لاعتبارات تتعلق بإعجاب رابين بسجله العسكري … وبحاجة حزب العمل لابراز شخصيات الجيل الثاني واعدادها لوراثة جيل القدامى. واختلف في هذا المجال مع شمعون بيريز الذي كان يشجع تقديم العناصر المدنية المتفوقة في حزب "العمل" من امثال يوسي بيلين على العسكريين، لقناعته بأنهم اقدر على استنباط الحلول السياسية. وعارضه رابين في هذا التصور لأنه هو شخصياً خدم كرئيس لهيئة الأركان في حرب 1967… ولأن الذين قاتلوا من امثال موشي دايان وعازر وايزمان وشارون كانوا أسلس لقبول مشروع السلام مع مصر من السياسيين المدنيين. خصوصاً ان اسرائيل منذ أُنشئت عام 1948 ظلت تمثل ظاهرة "الثكنة العسكرية" لا ظاهرة المجتمع المدني… وان الميل الى انخراط الضباط في الحياة السياسية والاقتصادية جذب اكثر من 125 منهم بعد حرب 1967. من منطلق تقديره لمميزات المؤسسة العسكرية، اختار اسحق رابين إيهود باراك وزيراً للداخلية بناء على سجله الحافل أثناء قيادة سلاح المدرعات ورئاسة شعبة التخطيط من عام 1959 وحتى عام 1982. واستناداً الى النجاح الذي حققه في هذا الميدان، عين باراك قائداً للقطاع الشمالي بعد اجتياح 1982، ثم قائداً للمنطقة الوسطى سنة 1986. ولقد منحته فترة اختبار الأمن الداخلي فرصة التعرف الى القيادات السياسية التي عززت ترشيحه لمنصبي رئيس هيئة الأركان ورئيس شعبة الاركان العامة. والملاحظ انه دخل المعركة الانتخابية ضد نتانياهو بالاعلان عن الانتصارات التي حققها على صعيد مقاومة رموز المقاومة الفلسطينية، بدءاً بتصفية كمال عدوان ويوسف النجار وكمال ناصر عام 1973 في بيروت… وانتهاء بالمشاركة في عملية عنتيبي واغتيال أبو جهاد في تونس عام 1988. ومن وراء هذا السجل الدموي كان باراك يتباهى بأنه من القلة بين الجنرالات الذي يحمل شهادة دكتوراه في الفيزياء والرياضيات من الجامعة العبرية… وشهادة ماجستير في تحليل الأنظمة من جامعة ستانفورد في كاليفورنيا. واضافة الى تنوع اختصاصاته، فانه يحرص دائماً على العزف على البيانو للتأكيد بأنه من هواة الموسيقى. اول اطلالة قام بها باراك على المسرح السياسي كانت في تشرين الأول اكتوبر 1995، عندما انتدبه اسحق رابين للتكلم باسم الحكومة في ندوة اقيمت في جبل الكرمل. واعترف للحاضرين بأنه تحفظ على اتفاق اوسلو 1993 وامتنع عن التصويت على أغلب بنوده المتعلقة بالحكم الذاتي… ولكنه من جهة اخرى رفض منطق المعترضين على اوسلو، وقال ان البديل لمشروع السلام يضع اسرائيل امام خيارين سيئين: إما العمل على طرد الفلسطينيين الى خارج الضفة بقوة السلاح… وإما التحول الى دولة عنصرية أبارثايد مثل دولة جنوب افريقيا قبل مانديلا. وحاول التخفيف من وقع تحفظه على أوسلو بالقول انه ليس من الضروري الموافقة على كل بند من بنود الاتفاق، اذا كان الموقف العام يدعم فكرة الحكم الذاتي. وبعد مرور 24 ساعة على هذا التصريح انتدبه رابين لمحاورة عدد من الحاخامات جاؤوا يحتجون على اتفاق اوسلو. وقال له بلغة الحزم والحسم: "اذا كنت تجد نفسك غير منسجم مع موقف الحكومة، فما عليك الا ان تستقيل". وكان جوابه على هذا التهديد بأنه سيحاول اقناع المتدينين بخطأ موقفهم، وبأنه سيتحدث باسم الحكومة. ومعنى هذا انه قادر على تغيير مواقفه السياسية اذا كان ذلك يلبي طموحاته الشخصية. شدد ايهود باراك خلال حملته الانتخابية على الوحدة الوطنية، وعلى المساواة امام القانون، وعلى حاجة السياسيين الى استقطاب التيارات الأساسية بهدف وقف القلق المصيري على مستقبل الدولة العبرية. وكان بهذا الطرح يسعى الى وقف الانقسامات والنزاعات التي تجلت بتنامي المجموعات العنصرية والدينية والفئوية بحيث تحولت اسرائيل الى جزر متناحرة للمستوطنين والأصوليين والمهاجرين الروس واليهود الشرقيين والاثيوبيين. ومن المؤكد ان نتانياهو لعب دوراً أساسياً في اعادة صوغ المجتمع الفسيفسائي لأسباب تمنع التسوية النهائية التي تحتاج الى اجماع الرأي العام. من هنا تبدو صعوبة الانطلاق لحزب العمل المكلف حالياً بتأمين الاستقرار الداخلي قبل الانتقال الى الاهتمام بالاستقرار الاقليمي. ويتوقع المراقبون ان تواجه عملية التسوية مع باراك تحديات مختلفة لأنه يتقن فن المراوغة والتكيف. كما يتقن مع شمعون بيريز فن استغلال العلاقات الدولية المرجحة دائماً لصالح حزبهما. من العبارات المألوفة التي اصبحت لازمة في كل خطاب سياسي يقدمه ايهود باراك، عبارة تتحدث عن "استراتيجية بعيدة المدى قد لا يجني ثمارها صاحبها في المدى المنظور، وانما يورثها لأولاده وأحفاده". ويستنتج من هذه العبارة الغامضة انه ميال الى اعادة ترتيب الأولويات الاسرائيلية ولو أدى ذلك الى تأجيل الفترة الزمنية التي حددها كلينتون بعام واحد. لهذا السبب اقتبس عبارة مرشده اسحق رابين، وقال انه يرفض الالتزام بمواعيد محددة… لأن المواعيد ليست مقدسة! مع بداية انعطاف باراك عن وعوده الانتخابية، ارتفعت التساؤلات في العواصم العربية عن مدى تجاوبه مع دعوة البرلمان الاوروبي بشأن القضايا العالقة مثل القدس والدولة الفلسطينية واللاجئين والوضع النهائي، خصوصاً ان نتانياهو نجح في تجميد عملية السلام مدة ثلاث سنوات من دون ان يؤدي ذلك الى كارثة، مثلما حذر الاميركيون والاوروبيون. وأعلنت واشنطن التي ترعى عملية السلام منذ مؤتمر مدريد 1991 انها تتوقع تسريع المفاوضات على المسارات الثلاثة بهدف تحقيق تسوية نهائية للنزاع الاسرائيلي - الفلسطيني في غضون سنة. وتطالب ادارة كلينتون ايضاً بضرورة استئناف المفاوضات المتوقفة منذ شباط 1996 مع سورية. ومن جهة اخرى قررت السلطة الفلسطينية طرح مسألة استقلال الدولة مع بداية شهر حزيران يونيو المقبل بعد الموافقة على التأجيل لأن ذلك يخدم حزب العمل. والدولة - كما قدم مواصفاتها ياسر عرفات - يجب ان تتصل بالبلدان العربية عبر مصر من جهة غزة… ومع الأردن من جهة الضفة الغربية. اي ان تكون دولة غير مقطعة الأوصال تمتد من حدود القدس حتى جنين ونابلس. وان يصل الممر الآخر بين غزة والضفة من دون ان يعرقل مصير المستوطنات الوحدة الجغرافية. اثناء المعركة الانتخابية حدد باراك أربعة خطوط عريضة ينوي مناقشتها مع الفلسطينيين والسوريين، هي: 1 - بقاء القدس موحدة تحت سيادة اسرائيل. 2 - لا عودة لحدود 1967. 3 - منع قيام جيش فلسطيني. 4 - الحفاظ على غالبية المستوطنات في الضفة الغربية. وفي نهاية الحملة خفف قليلاً من تصلبه وتحدث عن اتفاق ينبغي ان يترك القدس والتجمعات الكبيرة للمستوطنات خاضعة للسيادة الاسرائيلية، ومع انه لم يستبعد قيام دولة فلسطينية نتيجة المفاوضات، الا انه وصفها بأنها ستكون منزوعة السلاح. وأكد انه سيعاود تنفيذ اتفاق "واي ريفر" شرط ان ينفذ الفلسطينيون الجانب الخاص بهم. وأعرب عن ثقته بايجاد صيغة تسمح باستئناف المفاوضات المجمدة مع سورية، وتعهد العمل على الانسحاب من الشريط الحدودي في جنوبلبنان خلال سنة من تاريخ تأليف اول حكومة. اضافة الى هذه العناصر غير المشجعة، فإن باراك بدأ يردد ما كان يقوله اسحق رابين من ان تفويض حزب العمل التفاوض بشأن اتفاق الوضع النهائي، لا يعفي حكومته من تنظيم استفتاء شعبي قبل تنفيذ اي اتفاق محتمل على اعادة الجولان او على انشاء الدولة الفلسطينية. وهو بهذا التراجع يريد ان يؤكد بأن نتائج الانتخابات لم تمنحه صلاحيات حق التصرف بالتسوية النهائية. أبلغ الرئيس الاميركي حلفاءه الاوروبيين بأنه عازم على فتح المسارين الفلسطيني والسوري، على ان يعقد قمة آخر السنة بمشاركة عرفات وباراك لبحث مفاوضات التسوية الدائمة. ونبه الرئيس الاميركي الى احتمال اعلان دعم غير مباشر لقيام الدولة الفلسطينية، في حال تلكأت اسرائيل عن الاعتراف بهذا الحق. وأعلنت مصادر فلسطينية ان كلينتون منح عرفات وعداً في هذا الموضوع. مطلع هذا الشهر اقترح شارون فتح الحوار على المسارين اللبناني والسوري، بهدف البحث في امكان الانسحاب من جنوبلبنان، تليه مرحلة الانسحاب من الجولان على ان تبدأ المفاوضات حولها من النقطة التي انتهت عندها المباحثات السابقة في عهد رابين. وأعربت دمشق عن شكوكها وتخوفها من مرامي هذا الاقتراح الذي طرح لتمكين الانسحاب من لبنان كورقة انتخابية رابحة تعقبها متاعب مفتعلة تمنع الانسحاب من الجولان. ولقد وافقت واشنطن على تأجيل البحث الى ما بعد الانتخابات. يقول مراقبون انه منذ دخل ايهود باراك عالم السياسة وهو يتصرف بغموض وحذر، فالعبارات التي يستخدمها لاعلان وجهة نظره تحمل دائماً معاني التأويل بحيث يمكن تفسيرها على عدة أوجه. ومثل هذه النزعة الحربائية يمكن أن تربك المفاوض العربي، خصوصاً وأنه بدأ يتنصل من تحمل مسؤولية سلفه رابين نحو أوسلو، ونحو تعهده بالانسحاب الكامل من الجولان. وهو يدعي بأنه رفض الموافقة على اتفاق أوسلو، وبأن الحضور العسكري الاسرائيلي في الجولان سيبقى مستمراً ولو من ضمن اتفاقية سلام. ايهود باراك مثله مثل العسكريين من رفاقه، يتطلع الى عملية اغتيال رابين كإنذار دائم لمصير يمكن ان يتوقعه كل حاكم اسرائيلي يحاول القفز فوق الخط الأحمر. وهو بالطبع حصل على أكبر مجموعة أوسمة مكافأة من الدولة على اغتيال أكبر مجموعة فلسطينية... ولكنه لا يجرؤ على اغتيال الفكر الصهيوني المتحجر كما جرب معلمه رابين. * كاتب وصحافي لبناني