رواية جديدة للروائي والناقد والمترجم الجزائري محمد ساري بعنوان "الغيث" صدرت حديثاً عن منشورات البرزخ، وتأتي بعد أربع روايات سابقة هي: "على جبال الظهيرة"، "السعير"، "البطاقة السحرية" وپ"الورم"، وله رواية واحدة نشرها بالفرنسية عام 2000 بعنوان"المتاهة". ما يميز تجربة محمد ساري هو أنه كاتب يهوى الصنعة الروائية، ويحاول أن يتقنها في شكل حرفي، فروايته كما يؤكد هو تقوم دائماً على بنية محكمة، وعلى صرامة في معالجة الموضوع الذي يشتغل عليه والشخصيات التي يرسمها. وإن كان في روايته الأولى أميل الى الموضوعات الاجتماعية التي ميزت فترة السبعينات من خلال الواقعية الاشتراكية، فإنه في روايته الثانية"السعير"وجد نفسه تحت عباءة روايات رشيد بوجدرة التي مارست بداية الثمانينات تقريباً تأثيراً كبيراً فيمن يكتبون بالعربية من خلال التوجه إلى ما عرف في الخمسينات في فرنسا بپ"الرواية الجديدة"، والمبالغة حتى في الشكلانية المفرطة لغوياً، والمغلقة على نفسها. وكان محمد ساري مع جيلالي خلاص من الممثلين الرسميين لهذا الاتجاه إن صح التعبير، ثم نوّع الروائي بعض الشيء في"البطاقة السحرية"التي على رغم أنها تناولت موضوعة تقليدية مثل بطاقات المجاهدين التي كانت تستعمل لأغراض مشبوهة، إلا أنه قدمها في قالب واقعي سحري، كشكل يستثمر في الغرائبي والسحري وسواهما، ثم تأتي"الورم"منشورات الاختلاف مكتوبة في أتون المحنة الجزائرية وما عرفته من عنف، وحرب أهلية شرسة، فجاءت الرواية اقرب الى الشهادة عن وضع غير قابل للعيش أو الاحتمال. والشيء نفسه يطبق على روايته"المتاهة"صدرت بفرنسا عن منشورات المرسى، فالغاية كانت تبيلغ رسالة عن الوضع المتأزم في جزائر التسعينات. وبين هذه الروايات قدم محمد ساري ترجمات رائعة لروايات جزائرية لم تترجم قبلاً، مثل رواية"الممنوعة"لمليكة مقدم، أو"العاشقان المنفصلان"لأنور بن مالك، أو"صفارات بغداد"لياسمينة خضرا... تأتي رواية"الغيث"بعد صمت دام أكثر من خمس سنوات، ويحاول فيها الروائي أن يقدم لنا نظرة عن جزائر التسعينات من جديد، جزائر يغلفها العنف، وتتطاحن بداخلها الأسئلة، وتتصارع على أرضها الأهواء والتيارات الراديكالية المتطرفة، بين سلطة متقوقعة على نفسها ضمن خيار أحادي مغلف بشعار براق هو الجمهورية والديموقراطية وأصولية تمكنت من كسب شارع كان يرغب في التحرر من ذلك النظام، فوجد في تيار الأصولية هذا، ملاذه وحتفه في الوقت نفسه. الرواية إذاً من حيث الموضوع بقيت مرتبطة بسياق مرحلة العنف تلك، لكنّ خيارها الجمالي ذهب في اتجاه التقرب من شكل السرد التراثي واتباع طريقة الحكاية التقليدية التراثية التي تعتمد راوياً يسرد الحكاية أمام جمع من الناس، وهي طريقة استثمرت كثيراً في المسرح الجزائري وعرفت باسم"الحلقة"وبرع فيها خصوصاً المرحوم عبدالقادر علولة في مسرحيته الشهيرة"الأجواد"، حيث تبدأ الرواية على هذا النحو:"الحكاية طويلة ودروبها متشعبة، وقودها الصبر ونفاذ البصيرة، تعرفون لا شك أن السماع والاستمتاع يستوجبان الجلوس المريح، استعداداً للسفر مع فعل القص النبيل، إذ أنني سأقص عليكم أحسن القصص وأمتعها". وهي تستمر على هذا المنوال:"سادتي المستمعين، أنا في خدمتكم، حددوا طلباتكم بالحجم واللون، وهيئوا أنفسكم للإقلاع..."لكنّ هذه الطريقة في دفع القارئ الى الانتباه وتتبع مجريات الحكاية ليست في النهاية إلا وسيلة مخادعة، لأنه يخبرنا لاحقاً أن زمن الحكي في الأسواق انتهى، لكنها الوسيلة التي يفضلها الراوي لسرد حكايات كثيرة وبتفاصيل طويلة لدرجة الشعور بأن مهمة الرواية أحياناً الإكثار من الأوصاف وتطويل عدد الصفحات، وفي شكل أثر في ايقاعها، ومسار تطورها الطبيعي، مع أن الرواية حبكت على أساس الصراع بين التيار التقدمي الحر، والممثل في بعض الشخصيات التي تتهم بالفلسفة والزندقة أو السكر والعربدة، مثل الصديقين عبد القادر وموسى، وپ"جماعة الناقة"بقيادة"المهدي"التي تريد تغيير المجتمع نحو توجه ديني معين، وفرض نفسها بديلاً من الوضع المتعفن الذي نجم عن سوء تسيير البلد في فترة الاشتراكية والانفتاح، أي بين السبعينات والثمانينات. لكنّ هذا المهدي، كي يحقق نجاحه الساحق، يجد نفسه مضطراً الى البحث عن متكأ تاريخي وشرعية عقائدية يعطيانه مكانته التي يستحقها. هنا تتناص الرواية مع تاريخ الجزائر البعيد من خلال شخصية محمد بن تومرت، فهو يبحث عن الإشارات التي تعطيه ذلك الحق في اعتلاء العرش.. وسط ذلك تولد شخصيات أراد لها الكاتب أن يكون لها ماض مفعم بالغرابة والأسطورية مثل شخصية الشيخ امبارك، شيخ زاوية في أعلى جبل الونشريس، الذي كان يبحث عن سر إحياء الموتى، وإخصاب النساء العواقر، أو أم المهدي نايلة التي تعرضت فترة الاستعمار لاغتصاب وحشي. ولا نعرف إن كان لذلك دلالة على أن المهدي لقيط في النهاية، ويرمز للوجه السلبي الذي أفرزته مرحلة بعينها، الجانب المظلم الذي سينتقم من جزائر الاستقلال لاحقاً، أم هو فقط هزء من هذه الشخصية التي ترمز الى الشر في سياق الرواية. ونجد شخصية أخرى تلعب دوراً رئيساً داخل مجريات هذه الحكاية هي المجاهد اعمر حلموش، شخصية غريبة متناقضة في الوقت نفسه، فبعدما كان ثورياً فترة الثورة وتحرير البلاد تحول بعد الاستقلال إلى شخص يبحث عن غنيمته من هذه الثورة. كل ذلك يدور في فضاء واحد هو مدينة"عين الكرمة"حيث تتأطر الحكاية وتتحدد مكانياً في الأقل. وفق محمد ساري في نسج معمار روائي محكم البنيان، فكل ما يحدث داخل الرواية له أسبابه المنطقية، ولا تحدث الأشياء صدفة أو من دون تحليل. وعلى رغم اللمسة الغرائبية والعجائبية التي ميزت هذه الرواية، وكذلك الشطحات الصوفية والشعرية التي تميز الكثير من الفقرات فإن الرواية تظل أسيرة الواقعي المادي، وربما أرهقتها التفاصيل الطويلة المملة، والأحاديث السياسية التي نشعر في أحياناً كثيرة أنها مقحمة، وفي غير مكانها. مع ذلك تتميز الرواية بالكثير من الجماليات السردية وبرغبة الكاتب في الذهاب أبعد من محاولاته الروائية السابقة.