عاد الروائي الجزائري رشيد بوجدرة الى"تيمة"حرب التحرير في روايته الجديدة الصادرة حديثاً عن منشورات دار الغرب في الجزائر بعنوان"نزل سان جورج"، معتمداً مذكرات بسيطة كتبها جندي فرنسي استدعي للمشاركة في حرب الجزائر كنجار يصنع توابيت الجنود الفرنسيين، ليكون شاهداً على قذارة الحرب المعلنة على الجزائريين. استخدم رشيد بوجدرة حكاية النجار الفرنسي جان الذي رُمي به في حرب الجزائر، للعودة الى موضوع حرب التحرير، لكنه تعدى ما جرى للجندي الفرنسي والفظائع التي اكتشفها خلال الحرب، ليبقى مرتبطاً بموضوعاته المفضلة، وكتب منذ الصفحة الاولى:"مع كل الركام العائلي الذي أسحبه ورائي دائماً صعوداً ونزولاً، ها هي هذه المرأة تدخل حياتي بحكايتها عن والدها الذي شارك في حرب الجزائر وكلفها بزيارة البلد بضعة أيام قبل وفاته". لا تقوم رواية"نزل سان جورج"على الراوي الرئيس الذي يمسك بسلطة السرد، ويعرف أدق تفاصيل الشخصيات الجانبية، بل هناك شخصيات عدة تتساوى في كل شيء، وتختلف في نفسيتها، حتى ان هذه الرواية عبارة عن رواية نفسية كتبها بوجدرة بروح كاتب متحكم في تقنيات التحليل النفسي. كل شخصية في هذه الرواية تحكي جوانب من حياتها، وتكشف أسرار بعضها عبر"مونولوغات قصيرة"، كتبت بلغة مختلفة أحياناً. فاللغة المستعملة عند اعترافات حركي والحركى هم الخونة الجزائريون الذين تعاملوا مع الاستعمار يدعى"قادر"تفنن في تعذيب المجاهدين خلال الثورة، عبارة عن خليط بين العربية والفرنسية لغة"فرنكو ? عربية"مهلهلة، في حين أن لغة اعترافات"زيغوطو"مثلاً تقوم على الارتباك النفسي، الذي يتجسد من خلال ممارساته الدنيئة المختلفة عن مواقف شخصية أخرى هي"راك"التي تبدأ الرواية بتقديم مونولوغ قصير لها، والذي يتميز بالطيبة والتفهم. ويبقى أن الجامع المشترك بين كل هذه الاعترافات هو لجوء الكاتب الى أسلوب يقوم على الجملة القصيرة التي غالباً ما تتوقف عند الفعل الواحد. وقد سبق لبوجدرة أن لجأ الى هذه التقنية في روايتين سابقتين هما"الحلزون العنيد"وپ"تيميمون"، وفي شكل أكثر في"الحلزون..."التي تبقى أحد أهم الأعمال الروائية لديه. هكذا تبدو"نزل سان جورج"رواية المكاشفة المتبادلة. فالقارئ لا يعرف شيئاً عن كمال ابن ياسمينة أخت"راك"نعثر عليه في رواية سباقة هي"الحياة على الوجه الصحيح" إلا عبر اعترافات"زيغوطو"، فهو الذي يكشف التصرفات الغريبة لكمال وهو طبيب متخصص في أمراض القلب. اعترافات تركت والدته ياسمينة في حيرة من أمرها بسبب المال الوفير الذي يملكه وينفقه على الجميع، في إشارة من بوجدرة الى البورجوازية الجديدة التي برزت في البلاد. ويدخل كمال أحداث الرواية عندما يتصل به"راك"ويكلفه مرافقة المرأة الفرنسية"جانّ"أثناء زيارتها لمدينة قسنطينة. منذ البداية يقدم لنا"راك"الفرنسية"جانّ"، ولا نعرف شيئاً عنها إلا عندما تتحدث عن طفولتها وعلاقتها بوالدها، كما يحدثنا عن"زيغوطو"وعن بوبكر المدعو"بوب". وعندما تقف الرواية عند النجار الفرنسي ندرك كيف عاد من حرب الجزائر مكسوراً يجر أذيال الخيبة، وفقدان الثقة في فرنسا التي استدعته للمشاركة في حرب غير عادلة على شعب أعزل. وكأن علاقته بنبيلة وهي مناضلة في جبهة التحرير الوطني، تعمل كنادلة في نزل سان جورج ليلاً كي تتمكن من دفع نفقات دراستها، هي التي جعلته يكتشف قذارة الحرب على الشعب الجزائري، بعدما اكتشف أن الجنود الفرنسيين يمارسون التعذيب في شكل رهيب على الفدائيين. لا تضعنا الرواية أمام ماضي فرنسا الاستعماري والجرائم المرتكبة في حق الشعب الجزائري منذ الإبادة الجماعية، وبدء ممارسات العقيد الفرنسي كافينياك، وصولاً الى التعذيب أثناء حرب التحرير عبر شهادة النجار الفرنسي والد"جانّ"، بل تعيدنا الى الحاضر وتجعلنا نكتشف خراب عائلة جزائرية يحاول"راك"لمّ شملها على رغم اعتراض"زيغوطو"الفاقد للمقومات الإنسانية والمتعالي. جعل بوجدرة من سقوط فرنسا الاستعمارية، وتدهور حال الجزائر المستقلة، لحظة إبداعية تعقدت من خلالها الأحداث في شكل يمنح الرواية كثيراً من المتعة التي قلّما نعثر عليها في الروايات الجزائرية التي كتبت في السنوات الأخيرة. بل إننا لا نعثر عليها إلا في أعمال رشيد بوجدرة الذي يكتب بروح أدبية قوية وحساسية عميقة تقدم لنا الشخصيات في كل لحظات الضعف والقوة. وتستمر لعبة المكاشفة المتبادلة في رواية"نزل سان جورج"في شكل يوحي أن حقيقة أي طرف لا نتعرف عليها إلا من خلال اعترافات طرف آخر، وكل طرف لا يشبه من سبقه، حتى أن أدق الاختلافات نكتشفها بالتتالي، وتبرز في شكل تراجيدي، لأن معظم الشخصيات التي تمارس فعل الاعتراف والمكاشفة ترتبط بعضها ببعض بعلاقات عائلية، فتبرز موضوعات بوجدرة المفضلة كالسلطة الأبوية والميراث، وكره الابن والده، وقتل الرجل عشيق زوجته، والانتماء الى الشيوعية الذي لا ينفي الدين، واحترام راك للدين، وإرسال"بوب"الى الحج مع أنه يساري. تضعنا رواية بوجدرة الجديدة أمام شخصيات ضعيفة، سلبية، تكشف أسرارها، وتمنحنا لذة القراءة التي تعودنا عليها في جل أعماله.