شغل موضوع الإصلاح السياسي والديني والثقافي النهضويين العرب طوال القرن التاسع عشر وحتى النصف الأول من القرن العشرين. ففي فترة الحكم العثماني للأقطار العربية ظهرت اتجاهات فكرية متعددة طرحت موضوع الإصلاح كحاجة ملحة يقتضيها الواقع العربي الذي كان يئن تحت وطأة الجمود والتخلف، وما زاد من خطورة هذا الوضع، ظهور التحولات الجذرية التي عرفتها القارة الأوروبية مع بدء عصر النهضة العام 1798 وهو التاريخ الذي غزا فيه نابليون مصر، واعتباره يمثل بداية المواجهة المباشرة بين الغرب والشرق أو بين الخلافة العثمانية وأوروبا الصناعية في الشرق العربي وبين مصر وانكلترا وبين المغرب العربي وفرنسا. وباعتبار هذه الحقبة مدخلاً لرواج الأفكار التنويرية التي تمثلت بالحاجة إلى التعليم وبزوغ فجر الصحافة العربية وتوسع الاحتكاك الثقافي بالغرب. وازاء هذه المواجهة بدأت تتوالى الاسئلة على لسان النهضويين العرب ومن مواقع مختلفة. ما هي أسباب ضعف الشرق حتى يتمكن الغرب من اجتياحه والتغلب عليه؟ ما هو الداء وما هو الدواء؟ وكيف ننهض من كبوتنا ونصلح حالنا؟ هل نُقبل على الثقافة الغربية ام نرفضها كلياً أو جزئياً؟ ما هو السبيل للخروج من حال الركود والانحطاط والجهل والتخلف الاجتماعي والسياسي إلى حال الحركة والتقدم؟ هل نصلح المجتمع بالعلم ام بالدين؟ ما موقفنا من النظام السياسي السائد وكيف يمكن اصلاحه أو تحوله؟ لماذا تحجم السلطات العثمانية عن اجراء الاصلاحات الضرورية داخل الولايات العربية؟ هذه الموضوعات التي اثيرت خلال تلك الفترة اعتبرت مقدمة لولادة تيارات فكرية وسياسية ودينية اوجدت اشكالية لدى العديد من النهضويين العرب الذين راحوا يتلمسون الطرق لايجاد الحلول واخراج المجتمعات العربية مما كانت تعانيه. على ان ذلك لا يمنعنا من القول بأن هذه الاشكالية التي واجهها العالم العربي في ظل الحكم العثماني تأثرت إلى حد كبير بمستوى التجاوب الذي اظهرته السلطات العثمانية ومدى استعدادها لتحقيق المطالب العربية وتحسين الاوضاع داخل الولايات العربية، وفي مقدمها الاصلاح السياسي والثقافي واعطاء العرب حقوقهم، خصوصاً بعد إعادة العمل بالدستور العثماني. من هنا يمكن تفسير الاتجاه الذي سار عليه النهضويون العرب والذي تمثل بظهور العديد من التيارات الفكرية، ابرزها تيار التحديث الاسلامي الذي كان من رواده رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي وصولاً إلى تيار رجال الاصلاح الاسلامي الذي بقي رشيد رضا ردحاً من الزمن ينطق باسمه، وانتهاء بالتيار الليبرالي التقدمي الذي كان من رواده عبد الرحمن الكواكبي وشبلي الشميل وفرح انطون وغيرهم. فما هي الجوانب السياسية التي ظهرت في حركة رشيد رضا ورؤيته للاصلاح السياسي؟ بدأت اهتمامات رشيد رضا بواقع العالم العربي في فترة مبكرة إذ شكل الاصلاح بالنسبة اليه أولوية سعى إلى تحقيقه، فهو اعتبر صلاح احوال العرب مقدمة لا بد منها للاصلاح السياسي الشامل. من هنا وجدناه ينوه بالدور الذي قام به العرب لخدمة الإسلام والعمل على نشره على اوسع نطاق كما ابرز اسهامات العلماء العرب في نشر الحضارة العربية الاسلامية داعياً إلى ان يدرك العرب اولاً اهمية دورهم الديني والعلمي وعظم مسؤولياتهم في قيادة العمل العربي الاسلامي فكرياً وسياسياً ثم دعا المسلمين عامة إلى معرفة قدر العرب وادراك اهمية لغتهم وبلدانهم وأن يوفروا لهم كافة وسائل الدعم المادي والمعنوي. لقد شغل الوضع العربي حيزاً مهماً من تفكير رشيد رضا فحاجته للاصلاح حددت له اطار العلاقة مع السلطات العثمانية كما ارتبطت هذه العلاقة بمدى التجاوب الذي صدر عن عاصمة الدولة العلية لتحقيق المطالب الاصلاحية وعلاقتها بالممارسات الداخلية لحكام الولايات والتطور الذي شهدته الدولة العثمانية بعد سقوط حكم السلطان عبد الحميد الثاني ومجيء جمعية"الاتحاد والترقي"إلى الحكم وصولاً إلى تسلم الكماليين سدة السلطة واعلانهم الغاء الخلافة العثمانية. لقد انصب هم رشيد رضا على تضييق الفجوة التي بدأت تتسع بين العرب والأتراك والعمل على تجميع العناصر التي تكونت فيها الدولة العثمانية تحت شعار العثمانية على رغم كثرة الاخطاء التي ارتكبها الحكم العثماني. الا ان هذه الجهود التي بذلها رضا لم تؤد إلى النتيجة التي كان ينشدها لذلك فان ما كتبه في مجلة"المنار"عن موضوع الاصلاح اثار غضب الولاة العثمانيين وفي مقدمهم ابي الهدى الصيادي. ولم تنفع كتابات رشيد رضا لأبي الهدى ومحاولته شرح مقاصده وتبيان ارائه الاصلاحية لخدمة الدولة العثمانية اذ استمرت تعديات اعوان ابي الهدى على اهله وحاولوا الاستيلاء على مسجده في بلدته القلمون شمال لبنان، كما أغروا جريدة"طرابلس الشام"بالطعن في"المنار"في كل من يكتب في جريدة"طرابلس"مما اضطره للرد وكتابة مقال بعنوان"مؤاخذة العلماء اسكتها عن التمادي في الطعن". وازاء هذه الحالة وجد رشيد رضا نفسه وجهاً لوجه امام تحدي العمل السياسي من خلال تطور الاحداث السياسية في البلاد واعتماد السلطات العثمانية مبدأ كم الافواه التي تطالب بالاصلاح، وشكل الموقف الذي اتخذه رشيد بك والي بيروت ومنعه توزيع العدد الثاني من مجلة"المنار"في الديار السورية المرحلة الأولى من المواجهة السياسية التي فرضت على صاحب"المنار"مع رجال السلطان عبد الحميد الثاني، لا بل ان قرار المنع شمل عاصمة الدولة العلية وغيرها من البلاد حيث"هبطت الارادة السنية وصدرت الاوامر العلية بمنعه من جميع الولايات العثمانية". هذا التطور الخطير الذي اعقب منع توزيع"المنار"زاد من صلابة موقف رشيد رضا وتشديده على مطالبته بالاصلاح السياسي وتطبيق مبدأ الشورى داخل الدولة العثمانية وضرورة ان تكون العلاقة سوية بين العرب والأتراك وسائر الاجناس، الأمر الذي لم يرض الحكام العثمانيين، فأحيل رشيد رضا إلى المحكمة في طرابلس وصدرت بحقه مذكرة القاء قبض على ان يؤتى به حياً او ميتاً، وأصبح اقتناء"المنار"أو ما طبع بمطبعة"المنار"من اعظم الذنوب واثقل الاوزار التي تعرض حامل لسوء العاقبة، نظراً الى الآراء الاصلاحية في السياسة والشورى التي حملها لواءها رشيد رضا على صفحات مجلته حرصاً منه على تماسك الدولة وضمان استمراريتها. وبدلاً من ان يعمد بعض رجالات الدولة الى استعمال بأس الحكومة بما يعود بالنفع على رعايا الدولة وجدناهم كما يقول رشيد رضا، يجيزون استعمال هذا البأس في منع كتب العلم واضطهاد المتعلمين. لقد آمن رشيد رضا بضرورة توفير حرية البحث في السياسة والعلم والدين، خصوصاً ان اكثر المسلمين لم يألفوا آنذاك حرية العمل في مثل هذه الامور ورأى فيها العلاج الذي يقضي على العديد من الامراض الفتاكة العالقة بجسم الدولة العثمانية، فاصلاح الحال السياسي والديني والاجتماعي يتوقف على استقلال الفكر وتوفير مناخ الحرية والسير على الصراط المستقيم، لذلك رفع صوته عالياً بأن"المنار"سيبقى على صراطه لا يبالي بالمخالفين. لم يدع رشيد رضا فرصة الا وحاول ان يوظفها لنشر ارائه الاصلاحية على الصعيد السياسي والاجتماعي والديني، مشدداً على ان يكون هذا الاصلاح في موازاة خطة تتبناها الدولة لايلاء الولايات العربية الاهتمام وتحقيق ما تصبو اليه من المطالب العمرانية والحقوق السياسية، ففي تنبيهه للجرائد السورية حاول ان يبين بعض مهمات الصحافة التي يجب عليها ان تتخذ لها إلى جانب المذاهب في الاصلاح الاجتماعي اسلوباً حكيماً في انتقاد الحكومة. وحين وجد رشيد رضا ان الدولة العثمانية بقيادة جمعية"الاتحاد والترقي"ساعية إلى اذلال العرب وقمع شخصيتهم ومنع لغتهم وتذويب عروبتهم دعا العرب للدفاع عن أنفسهم والتمسك بالمطالبة بحريتهم والعمل على حفظ شخصيتهم وتاريخهم ودينهم. وكان اشد ما اثار حفيظته ما نشرته جريدة"اقدام"التركية من اقتراح تنقية اللغة التركية من الالفاظ العربية وما اودعه بعض الكتاب من مقالات نشرت فيها حول هذا الموضوع. ولم يخف رضا قلقه من سياسة الدولة حيال العناصر العربية، عندما عزلت ابناء العرب من وظائفهم وبخلها بالوظائف على طلابها منهم وتعجلها بأمور تشعر بتعمد اضعاف اللغة العربية، كجعل المرافعات في محاكم الولايات العربية بالتركية وجعل الكشوف التي يقدمها التجار العرب في بلادهم بالتركية أو الفرنسية مع تعثر ذلك أو تعذره عليهم واقتضائه نفقات كانوا في غنى عن بذلها، ومنها ما يتعلق بنظارة المعارف خاصة كالغاء الدروس العربية من المكتب الملكي، وجعل العربية في المدارس الاعدادية اختيارية كاللغة الارمنية واللغة الرومية وارسالها معلمين أتراكاً إلى مدارس البلاد العربية لاجل تعليم العربية وهم يجهلونها، وتعصب بعض المعلمين في المكاتب العالية على ابناء العرب واسماعهم ما يجرح عواطفهم حتى في الدروس. هذا التوجه الذي لمسه رضا عند المسؤولين في الاستانة وما قد ينتج منه من مخاطر تزيد التباعد بين العرب والأتراك دفعه الى دعوة العرب إلى حب لغتهم ومطالبة الدولة بمساعدتهم لان العربية هي لغة الإسلام التي يتداولها المسلمون من جميع الشعوب والاقوام، فهي رابطة الاخاء والمودة المعنوية بين الملايين المنتمين للديانة الاسلامية وحث رضا الامة كي تتفكر في الهاوية التي امامها. وهكذا بقيت رؤية رشيد رضا للاوضاع السياسية مرتبطة بخطه الاصلاحي الذي عمل على تحقيقه على رغم مواقف رجال السلطنة العثمانية وظلت آماله مبنية على استجابة حكام الدولة، فهاجسه في طروحاته الاصلاحية هو وصول الولايات العربية إلى ما تصبو اليه من حقوق في فترة كانت رياح التغيير تطل على دول المشرق العربي من خلال شعارات الحرية والديموقراطية وحق تقرير المصير. * كاتب لبناني