قبل أن نستعرض موقف السيد محمد رشيد رضا من المسألة العربية، لا بد من أن نعرّج، ولو في شكل موجز، على مسيرته. فهو مؤسس وصاحب مجلة «المنار» وغيرها من الآثار. فقد عاش قرابة سبعين سنة، كانت حافلة بالأحداث والأعمال، وما قيل عن هذه السيرة، أو ظهر في شأنها، لا يتجاوز نطاق الإجمال. فهي تكمن في أمرين: أحدهما فطري، وهو الاستعداد الذي يتوافر له من كمال الخلق، واعتدال المزاج، وحسن الوراثة للوالدين والأجداد. وثانيهما مكتسب، وهو التربية والتعليم النافع. وقد اجتمع هذان الأمران في شخص محمد رشيد رضا، إذ هو سليل بيت عربي إسلامي عريق، يتحدّر من نسل الحسين بن عليّ بن أبي طالب، ويستمد بالتالي الشرف والسيادة من انتمائه الى العترّة النبوية الشريفة. ولنسمعه يحدّثنا عن بيئته وبيته: «ولدت ونشأت في قرية تسمى القلمون على شاطئ البحر المتوسط من جبل لبنان. تبعد عن مدينة طرابلس الشام زهاء ثلاثة أميال، وكان جميع أهل هذه القرية من السادة الأشراف المتواترين النسب. وأهل بيئتنا ممتازون، ويعرفون بأنهم أهل العلم والإرشاد والرياسة ويلقبون بالمشايخ للتمييز». في هذه البلدة – القلمون، ولد محمد رشيد رضا في عام 1865، وتوفي عام 1935. فلا غرابة في أن يكون السيد الإمام قد اصطبغ بصبغة ذلك الوسط الديني الصافي، وأن تكون تلك الطبيعة التي ترعرع في أحضانها، قد فرغت فيه الشيء الكثير مما أغدقته على بلدته، فجاء شامخ الرأس كجبال القلمون، صلباً في دينه وعقيدته كصخورها، فيّاضاً في علمه، كذلك البحر الزاخر الذي كان يجلس على شاطئه في ريعان شبابه فكان أن طلب العلم بالإخلاص، وتوجيه الإرادة ليكمل به نفسه ويؤهلها للإصلاح الديني والإجتماعي، حتى أصبح من أشجع دعاته وأشدهم جرأةً في مواطن الحق على الحكّام والعلماء. ويعرّج رشيد رضا في سيرته للحديث عن أساتذته، فيشير الى أنه قد تخرّج في العلوم العربية والشرعية العقلية على الشيخ حسين الجسر، الذي يصفه بأن كان إلمامه واسعاً بالعلوم العصرية. وكان كاتباً وشاعراً عصرياً يكتب وينظم في كل موضوع بعبارة سهلة. كما كان من أساتذته الشيخ محمود نشابه، والشيخ عبدالغني الرافعي، والشيخ محمد القاوقجي كما يذكر بعض من طلبة العلم الذين عاش معهم، كالعالم الأديب الشيخ عبدالقادر المغربي وسعيد كرامه وعبدالغني الأدهمي والشيخ عبدالمجيد المغربي والشيخ محمد الحسيني. الهجرة الى مصر لخّص رشيد رضا ترجمة سيرته وما انتهى إليه في وطنه من تربية وتعليم استقلالي، وآثار قلمية وشهرة علمية وأدبية وقناعة بضرورة السفر للاستزادة من العلم والاختيار، كي يتمكن من مواصلة خدمة دينه وأمته: «عزمت على الهجرة الى مصر، لما فيها من حرية العمل واللسان والقلم، ومن مناهل العلم العذبة الموارد، ومن طرق النشر الكثيرة المصادر». أتيحت للسيد الإمام، وبعد صدور العدد الأول من «المنار»، في الثاني والعشرين من شوال 1898، فرصة نشر آرائه الإصلاحية الدينية والاجتماعية والسياسية، فكان أن جال قلمه في كل القضايا التي تخص العالمين العربي والإسلامي، بدءًا بموقفه من الانقلاب العثماني، مروراً بالوثائق الرسمية للمسألة العربية، وملاحظاته على الرسائل المتبادلة بين مكماهون والشريف حسين وانخراطه الفاعل في المؤتمرات التي عقدت آنذاك، كالمؤتمر السوري العام الذي عقد في أوائل عام 1919، وسائر المؤتمرات الأخرى، وتطرّقه الى وضع الخلافة أو الإمامة العظمى، ورأيه في الثورة السورية والحركة الوهابية، وموقفه المتميّز من الحركة الصهيونية وعملها لاحتلال فلسطين وسائر البلاد. وتولّدت عند رشيد رضا قناعة مفادها أن العرب بغالبيتهم الساحقة كانوا غير ميالين الى الانفصال عن جسم الدولة العثمانية، على رغم شعورهم بالنقمة وعدم الرضى عن المساوئ الناتجة عن تصرفات الحكام في الولايات والأقاليم، بل كانوا يطالبون بإلحاح بالإصلاح الإداري والسياسي والعسكري والاقتصادي ويصرّون على التماسك العربي – التركي في وجه أطماع الدول الغربية في ممتلكات الدولة العثمانية. على أن صفاء النيات العربية، وولائها لدولة الخلافة في فترة حكم الاتحاديين، لم ينسَ رشيد رضا موقف الاتحاديين من المسألة العربية. فبعد أن اتهمهم بإضاعة ثلثي المملكة العثمانية، وجميع الولايات العربية ومعظم الجزر البحرية، شنَّ عليهم هجوماً عنيفاً، واتهمهم بإفساد الجيش العثماني والتفريق بين العناصر المكوّنة له، وإضاعة الأموال، وبأنهم عمدوا لتأسيس بعض الجرائد العربية في عاصمة الدولة الأستانة، غرضها التفريق بين العرب وغشّهم ومخادعتهم، وتحقير مصلحتهم، وإيقاع الشقاق بين مسلمي سورية والنصارى منهم، على رغم معرفتهم أن أواصر التآخي والوفاق قد شدت المسلمين والنصارى في بيروت. وأجمع الطرفان على أن يكونوا يداً واحدة في طلب الإصلاح لبلادهم، وهذا ما لا يطيقه الاتحاديون. هذا الحرص الذي أبداه رشيد رضا على ضرورة تعاون أبناء البلاد السورية، جعله يوجّه نداءً الى مسلمي سورية لضرورة التعاون مع أبناء جنسهم من النصارى، رافضاً أساليب منتحلي الدعوة الى قيام الجامعة الإسلامية الذين يستدلون بالآيات القرآنية، ولا يعقلون مدلولاتها. إذ أن بينهم ممن يلفظ بالدعوة الى الجامعة الإسلامية، من دون أن يعرف حقيقة دعوة الإسلام، فلا يصلي ولا يصوم. وأمثال هؤلاء أبرع في فن التجارة والدين «فلا تغتروا بما يقولون، ولا بما يكتبون. ورب كلمة حق أريد بها باطل». لذلك كان إصراره على ضرورة اتفاق أبناء الجنس والوطن على كل ما فيه المصلحة المشتركة التي تجمع المسلمين والنصارى على قاعدة المنار الذهبية: «نتعاون فيما نشترك فيه، ويعذر بعضها بعضاً في ما يختلف فيه، ونحن متفقون في اللغة، وفي مصالح البلاد الزراعية والصناعية والتجارية والاجتماعية، فنتعاون على ذلك بغاية الإخلاص ويعذر بعضنا بعضاً في أمر الدين». أما موقفه من المسألة العربية، فظهر من خلال نقاط عدة أبرزها: 1- موقفه الإصلاحي غير الطائفي، وتثمينه لأهمية العنصر العربي في جسم الدولة العثمانية، 2- ميله الى الوحدة العربية في إطار الوحدة الإسلامية، 3- موقفه من القضية اللبنانية، واهتمامه بالقضية الفلسطينية. ولا يرى السيد الإمام إحراجاً في الجهر بانتسابه العربي، فنراه يكتب في مقال عن المسألة العربية قائلاً: إنني عربي مسلم، أو مسلم عربي. فأنا قرشي علوي من ذرية محمد النبي العربي الذي ينتهي نسبه الشريف الى اسماعيل بن ابراهيم عليهم الصلاة والسلام. فإسلامي مقارن في التاريخ لعربيتي... فأنا أخٌ في الدين لألوف الألوف من المسلمين من العرب وغير العرب، وأخٌ في الجنس لألوف الألوف من العرب المسلمين وغير المسلمين. هذا المنحى الذي سلكه رشيد رضا في المزج بين مصلحة العرب والمسلمين، دفعه للعمل على نهضة العرب، مبيّناً أهمية العلاقة بين مسلمي ومسيحيي العرب في آنٍ معاً. كما شدّد على ضرورة اتفاق الشعوب العربية في ما بينهما على اختلاف مذاهبها وأديانها. وأصرَّ على أهمية اتفاق المسلمين والنصارى في داخل الوطن السوري، خاصةً أن السوريين كانوا سبّاقين في وعيهم بأن يكون لهم وطن خاص بهم، معلوم الحدود والمصالح. وأهله مكوّنون من أصحاب ملل ومذاهب يرجعون في أكثريتهم الى فريقين: مسلمين ومسيحيين ويتوقف عمران البلاد وتطورها على تعاون الفريقين. وأصرّ رشيد رضا على ضرورة التعاون بين أبناء الأمة العربية الواحدة. وكانت تشده روابط قوية الى عدد كبير من النهضويين المسيحيين، بل إنه ذهب الى حد القبول برئاسة أحدهم الذي انخرط فيه، وهو الاتحاد السوري الذي ترأسه ميشال لطف الله. من هنا، وجدنا حرصه على ضرورة التعامل مع المسيحيين العرب بدليل إصراره على مشاركتهم في كل جمعية أو حزب سياسي، كجمعية الشورى العثمانية، وغيرها من الجمعيات والأحزاب. بل نجده يرد على جرجي زيدان في كتابه « التمدن الإسلامي»، ص 39، نافياً الخلط بين العروبة والإسلام مميزاً بينهما، دون أن يجد التعارض في ذلك. الوحدة العربية في نطاق الوحدة الإسلامية من خلال متابعة النهج الإصلاحي الذي سار عليه رشيد رضا، نراه يدعو العرب الى التمسك باللغة العربية، ويستنهض الهمم العربية ضمن الهمم العثمانية ولم يتعد تجاهه حدود المطالبة بتحسين أوضاع الولايات العربية، من دون أن يصل الى حد المطالبة بالاستقلال والتخلي عن وحدة الدولة العلية. من هنا ظهرت رغبة رشيد رشا واضحة في الإصلاح، ومحاولة رأب الصدع، وتلافي الانشقاق بين العنصرين العربي والتركي، وحرصه على تفنيد ادعاء كل من الفريقين بالأفضلية على الآخر، لقناعته بوجوب تجاوز هذه الاختلافات، لما تشكله من خطورة على وحدة الدولة العلية، ولاعتقاده بحسن التجاوب عند المسؤولين في عاصمة الدولة الأستانة. وكان حريصاً في كل ما كتبه حول هذا الموضوع على ضرورة نبذ فكرة التباعد والتنابذ بين الفريقين. وعلى رغم دعوته هذه، نراه لا يخفي قلقه تجاه سياسة الاتحاديين في العاصمة ضد العناصر العربية. وشكا من ضعف اللغة العربية، وإحلال التركية مكانها في الدوائر الرسمية وفي الكشوفات التجارية في الولايات العربية. ومع ذلك، بقي يدعو الى تقوية الأمة الإسلامية، من طريق تقوية العناصر المكوّنة لها، وخاصةً العنصر العربي فيها لما له من فضل في تطور الدولة العثمانية عسكرياً وثقافياً وسياسياً. من هنا نلاحظ أن السيد رشيد رضا كان متفهماً للواقع السياسي الذي كان يعيشه، فالأمة العربية في خطر، والأمة العثمانية في خطر. وبما أن الخطر مشترك، فهو يدعو الى الوقوف والتنسيق معاً، شرط الإحترام المتبادل، وشرط أن تتم الوحدة العربية في نطاق الوحدة الإسلامية. القضية اللبنانية وجال رشيد رضا في مختلف القضايا التي تخص العالم العربي آنذاك. من هنا وجدناه يعرّج في مناره على القضية اللبنانية، متناولاً موقف المسلمين والمسيحيين. فالمسلمون اللبنانيون يتعلّقون بالدولة العثمانية على أنها دولة إسلامية استمرارية، ولكنهم بدأوا يتأففون من سياسة التتريك على أيدي الاتحاديين. أما المسيحيون، فكانوا يريدون التخلّص من الحكم التركي، ويريدون الاستقلال أو التبعية لدولة أوروبية، وخاصةً فرنسا. لكن رشيد رضا دعا الجميع الى التماسك والتحابب والوقوف جنباً الى جنب ضد سياسة التتريك، وضد سياسة الهيمنة الأوروبية. كما تناول مبادئ «جمعية النهضة اللبنانية» بعنوان «من مبادئ النهضة اللبنانية ومنازعها» المنشورة في جريدة «الهدى» التي كانت تصدر في نيويورك، وقد تضمّنت هذه المبادئ ستة وأربعين بنداً، تناولت وضع اللبنانيين في الداخل وفي الخارج، ودعت الى الاستقلاق الموروث، وغير ذلك من الأمور السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية التي تخص اللبنانيين. ونصح اللبنانيين بعدم الانسلاخ عن الأمة العربية وعن البلاد السورية في تلك الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد، نظراً لتكالب الأعداء على ابتلاع المناطق العربية من قبل الغربيين، وطلب منهم الاعتدال، والمقصود هنا جماعة النهضة اللبنانية. وفي هذا الصدد كتب: « يظهر مما نشرنا، ومما لم ينشر بما يكتبه غلاة الدعوة اللبنانية، أنهم يمنّون أنفسهم مما ليس في طاقتهم، يعنون أنفسهم بأن يكونوا دولة قوية مستقلة تمام الاستقلال، منفصلة عن جدتهم الأمة العربية، وأمهم سورية نفسها، لا عن الدولة العثمانية فقط، ولا يكون مثل هذا إلا لشعب حربي قوي. وكذلك يكثر أصحاب دعوة الاستقلال من ذكر قوة الجبل وامتناعه عن الفاتحين، وانتصاره على المصريين، وإخراجهم جيش محمد علي الكبير من سورية وردها الى الدولة، والاسترسال في المبالغات». أما في موضوع الخطر الصهيوني على البلاد العربية، وإدراكاً منه بفداحة الخطر اليهودي الصهيوني على مستقبل فلسطين، ناشد رشيد رضا زعماء العرب بالقول: « يجب على زعماء العرب، أهل البلاد أحد أمرين. إما عقد اتفاق مع زعماء الصهيونيين على الجمع بين مصلحة الفريقين في البلاد إن أمكن، وهو ممكن قريب إذا دخلوا عليه من بابه، وطلبوه بأسبابه، وإما جمع قواهم كلها لمقاومة الصهيونيين بكل طرق المقاومة، وأولها تأليف الجمعيات والشركات وآخرها تأليف العصابات المسلحة التي تقاومهم بالقوة، وهو ما تحدث به بعضهم على أن يكون أول ما يعمل، وإنما الكي، والكي آخر العلاج». وهكذا بقي رشيد رضا حريصاً على وحدة العرب، مسلمين ومسيحيين. من هنا كان تشديده على وجوب اتفاق السوريين من مسلمين ونصارى، خاصةً بعد إعلان الأمير فيصل حكومته العربية في دمشق. ولهذا الغرض، كتب مقالات عدة، دعا فيها الى الاتفاق، مشدداً على ضرورة التربية والتعليم، عن طريق إنشاء مدارس وطنية، جاعلاً في جانب منها مسجداً، وفي جانب آخر كنيسة، وذلك لتربية الجيل الناشئ تربية دينية وطنية، لأن للديانتين الإسلامية والمسيحية فضائل كافية متفقة أو متقاربة «على قاعدة «المنار» الذهبية نتعاون ونشترك فيه، ويعذر بعضنا بعضاً في ما نختلف فيه».