مع حلول عام 2013 يكون قد مرّ على تأسيس مجلة المنار لمؤسسها السيد محمد رشيد رضا 125 عاماً، ولكن قبل أن نقف على الدور الهام الذي لعبته هذه الصحيفة، لا بدّ أن نعرّج على بعض المحطات التي سبقت إصدار المجلة. فمنذ أن وصل السيد رشيد رضا إلى مصر حرص على لقاء الأستاذ الإمام محمد عبده كاشفاً له عن أهدافه الحقيقية وهي أنّه قد جاء إلى تلك البلاد للإفادة من صحبته، فإنّه قد استقرّ به العزم على إنشاء صحيفة إسلامية إصلاحية يستمد فيها من حكمة الأستاذ الإمام في ما يكتب ويدخل بذلك ميدان الإصلاح الكبير مفيداً ومستفيداً. ولم يكن إقناع الشيخ محمد عبده بالموافقة على هذا المشروع أمراً هيّناً، إذ سبق له أن انتقد الصحافة والعاملين فيها أمام السيد رشيد من قبل أن يفاتحه في ما انطوت عليه نفسه من آمال في هذا الميدان. وفي إحدى مقابلات السيد رشيد رضا للأستاذ الإمام وذلك في 6 شعبان 1315ه / 1898م امتدت المناقشات بينهما، بحيث أتاحت لرشيد رضا إقناع الأستاذ الإمام بأهدافه الخاصة بالعمل الإصلاحي في ميدان الصحافة. إذ قال الأستاذ الإمام أنّه سمع من زائر جاءه من بيروت أنّ جماعة في طرابلس الشام قدموا مصر لإنشاء جريدة بها، وأظهر تعجّبه من ذلك موضحاً أنّ الجرائد في مصر كثيرة ولا تحتمل البلاد أعداداً أخرى. فقال له السيد رشيد جاء إلى مصر لينشئ جريدة للطعن في رجال الدولة. ثم أضاف إلى ذلك قائلاً: «وأصل الخبر صحيح ولكن المقصد أعلى من الكلام على الشخصيات والحكومات وأنّ رجال الدولة قد نالهم الكثير من المدح والذم وما نفع المدح والذم». وهكذا صدر العدد الأول من «المنار» صحيفة أسبوعية ذات ثماني صفحات في الثاني والعشرين من شوال 1315ه / 1899م، وحدّدت مقدمة العدد الأول الأغراض التي تسعى إليها هذه الجريدة وهي: نشر الإصلاحات الاجتماعية والدينية والاقتصادية، وإقامة الحجة على أنّ الإسلام باعتباره نظاماً دينياً لا يتنافى مع الظروف الحاضرة. وأوضحت الافتتاحية أيضاً أنّ غاية السيد رشيد رضا مواصلة السير على نهج «العروة الوثقى» وبخاصة في سعيها للقضاء على الخرافات والاعتقادات الدخيلة في الإسلام ومحو الأفكار الشائعة عن القضاء والقدر وما دخل على العقائد من بدع الاعتقاد في الأولياء، وما تأتيه الطرق المتصوفة من بدع وضلالات، ثم الحض على ترقية التعليم العام وإصلاح كتب التدريس وطرائق التعليم ودفع الأمم الإسلامية إلى مجاراة الأمم الأخرى في جميع الأمور الضرورية لتقدم الأمم. وتبين المقتطفات التالية في مقدمة العدد الأول للمنار أسلوب السيد رشيد رضا الرفيع ومنهجه القويم إذ يقول فيها: «أما بعد فهذا صوت صارخ بلسان عربي مبين ونداء حق يقرع في سمع الناطق بالضاد مسامع جميع الشرقيين ينادي من مكان قريب يسمعه الشرقي والغربي، ويطير به التجار فيتناوله التركي والفارسي، أيها الشرقي المستغرق في منامه المبتهج بلذيذ أحلامه، حسبك حسبك فقد تجاوزت بنومك حد الراحة، وكاد يكون إغماء أو موتاً زؤاماً تنبّه من رقادك وامسح النوم عن عينيك وانظر إلى هذا العالم الجديد فقد بدّلت الأرض غير الأرض ودخل الإنسان في طور آخر خضع له به العالم الكبير». أظهر السيد رشيد رضا إيماناً بالمنهج الذي رسمه لنفسه وقبوله واستفادته من النقد البنّاء لا يبتغي من وراء ذلك إلا مرضاة الله، لذلك لم يجد حرجاً في التوقّف عند كل المسائل التي تخص العالمين العربي والإسلامي. ففي موضوع الانقلاب العثماني تصدّرت صفحات «المنار» مواقف واضحة للسيد رشيد رضا شأنه في ذلك شأن الذين شدّتهم أخبار الانقلاب العثماني وما كان ينتظر البلاد العثمانية من تغيير على أيدي الحكام الجدد من زعماء جمعية الاتحاد والترقّي. ولذلك قرّر السفر إلى عاصمة الدولة العليّة الآستانة حيث أقام فيها سنة كاملة وقف فيها على غوامض سياستها. أما في ما يخصّ المسألة العربية فلم ينس السيد رشيد رضا موقف الاتحاديين من المسألة العربية، فبعد أن نبههم بإضاعة ثلثي المملكة العثمانية وجميع الولايات العربية ومعظم الجزر البحرية، نراه يشن هجوماً عنيفاً متهمهم بإفساد الجيش العثماني، والتفريق بين العناصر المكوّنة له. ويعتقد السيد رشيد رضا أنّ تعريض البلاد العربية لاستيلاء أوروبا عليها أخفّ على قلوب الاتحاديين وأدنى إلى سياستهم من اتفاق أهلها وصلاح حالهم. ويناشد السيد رشيد عقلاء البلاد السورية من المسلمين والنصارى ليعتبروا بهذا الإفساد فيزداد استمساكاً بحبل الوفاق والتآلف الذي وفقهم الله له، وأن يعنى كتّاب المسلمين منهم خاصة بردّ كل كلام يكتب لإفساد ذات بينهم باسم الإسلام، وبتحريك نعرة العصبية الدينية، فإنّ هذا الإفساد مخالف لهدي الإسلام ولا تغرهم سفسطة بعض أجراء الاتحاديين. هذا الحرص الذي أبداه السيد رشيد رضا على ضرورة تعاون أبناء البلاد السورية جعله يوجه نداء إلى مسلمي سورية بضرورة التعاون مع أبناء جنسهم من النصارى رافضاً أساليب منتحلي الدعوة إلى قيام الجامعة الإسلامية الذين يستدلّون بالآيات القرآنية ولا يعقلون مدلولاتها، إذ أنّ بينهم ممن يلفظ بالدعوة إلى الجامعة الإسلامية من دون أن يعرف حقيقة دعوة الإسلام، فلا يصلي ولا يصوم وأمثال هؤلاء أبرع في فن التجارة بالدين. لقد كثرت المواضيع التي حفلت بها صفحات «المنار»، بخاصة تلك التي ترتبط مباشرة بالعلاقة بين أوروبا وبلاد الشرق. من هنا وجدنا تفسيراً للرحلات التي قام بها السيد رشيد إلى أوروبا وحرصه أثناء تلك الرحلات على الاتصال بأحرار أوروبا وإبلاغهم حقيقة حال الشرق وموقفه أمام الغرب، والاستعانة بهم على إصلاح ذات البين، والاستفادة من آرائهم وإفادتهم بما يحبون أن يعرفوه عن بلاد الشرق عامة والبلاد العربية خاصة، والاقتراح عليهم السعي لإصلاح ذات البين بين الشرق والغرب بالعدل والإنصاف.وليبين لهم بما تجدد أثناء الحرب العالمية الأولى من يقظة عند الشعوب العربية وتوجهها إلى التعاون على دفع عدوان العادين عليها، وما يؤول إليه أمر هذه الأطماع الاستعمارية من الفتن والحروب بما تغرسه في قلوب المظلومين المقهورين من العداء وما تورثه من الأحقاد. وأنّ خير الوسائل لتلافي تلك الشرور أن يعنى أحرار أوروبا بإقناع رجال الدول المستعمرة أو إكراههم بقوة شعوبهم الأدبية ومجالسهم النيابية على قاعدة حرية الشعوب وسيادتها القومية ومساعدتها على ما تطلبه باختيارها من وسائل تعمير بلادها بالفنون العلمية والآلات الصناعية في مقابل الانتفاع منها. كان السيد رشيد رضا يتطلّع إلى خدمة أمته الإسلامية وبلاده الشرقية. وقد كتب بذلك على صفحات المنار مقالات عدة أرادها أن تكون بلاغاً من الشرقيين للأحرار الأوروبيين يشرح فيها أوضاع الشرق وينشد إقامة علاقات متساوية بينه وبين الغرب الأوروبي. وفي موضع الثورة السورية التي قادها سلطان باشا الأطرش فلقد اعتبراها حلقة من حلقات الصراع بين الشرق والغرب، هذه الثورة التي قادها سلطان باشا الأطرش ومعه زعماء ورواد حوران والتي اتخذت أشكال النضال السياسي والعسكري والفكري ضد المستعمر الغربي آنذاك. أما موقفه من الحركة الصهيونية وأطماعها في فلسطين فلقد كان السيد رشيد رضا يدرك عمق وأبعاد المشروع الصهيوني وأهدافه الاستيطانية في أرض فلسطين ومنها إلى سائر البلاد العربية، ولعل ذلك يتجلى من خلال المواقف القويمة والحازمة التي وقفها من القضية الفلسطينية دفاعاً عن الأرض والشعب والدين. وكذلك من خلال الفتوى التي نشرها في مجلة «المنار» المجلد 30 حول بيع الأراضي الفلسطينية إلى اليهود يحرّم فيها بيع الأراضي الفلسطينية. ويمكن القول إنّ «المنار» كانت منذ تأسيسها بمثابة سجل لحياة السيد رشيد رضا التي قضى فيها قسماً منها في مدينة طرابلس وفي بلدته القلمون، والقسم الثاني بعد هجرته إلى مصر إلى حين وفاته عام 1935. ففي «المنار» كان يفرغ تأملاته، وينشر الأخبار التي كانت تأتيه من أطراف العالم الإسلامي، كما أنّ نشاطات السيد رشيد رضا كانت عديدة منها ما كان مجموعة المقالات التي نشرت أولاً في المنار، ومنها ما كان جديداً كسيرة الشيخ محمد عبده وهي أهم مصادر لتاريخ الفكر العربي الإسلامي أواخر القرن التاسع عشر. كما أنه لعب دوراً هاماً في السياسات الإسلامية، كما اشترك في مؤتمرين إسلاميين عقدا في مكةالمكرمة عام 1926 وفي القدس عام 1931، كما ترأس المؤتمر السوري عام 1920 وكعضو للوفد السوري الفلسطيني إلى جنيف في عام 1921، وفي اللجنة السياسية في القاهرة عامي 1925-1926. وهكذا ذاع صيت «المنار» من خلال مؤسسيها في العالمين العربي والإسلامي وأوروبا.