"سكن" وبالشراكة مع وكالة الإسكان التنموي توقعان اتفاقية بقيمة 4.8 مليار ريال لدعم 16 ألف أسرة من الأشد حاجة    سلمان الفرج يتعرض لإصابة في الركبة    الوداد تتوج بذهبية وبرونزية في جوائز تجربة العميل السعودية لعام 2024م    عبدالعزيز بن سعود يرعى الحفل السنوي لجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية    أمير تبوك يدشن الموقع الإلكتروني للإمارة بهويته الجديدة    أمير المدينة يتفقد محافظتي ينبع والحناكية    أمين عامّ رابطة العالم الإسلامي يستقبل وزيرَيْ خارجيتَيْ غامبيا وغينيا بيساو    سياسيان ل«عكاظ»: الرياض مركز ثقل عالمي.. والدبلوماسية السعودية حققت موقفاً موحّداً لحماية غزة من جرائم الاحتلال    داخل شحنة مواد بناء.. إحباط تهريب أكثر من 11 مليون قرص من مادة الإمفيتامين المخدر بجدة    16 قتيلا في مجزرة إسرائيلية شمال غزة    مستشفى عسير المركزي يُنفّذ فعالية "اليوم العالمي للصحة النفسية"    معرض الدفاع العالمي 2026 يعلن عن حجز 88% من مساحة الجناح الصيني    أمير المنطقة الشرقية يرعى الحفل الختامي "لمسبار 8" ويستقبل سفير جمهورية أوكرانيا    تحت رعاية خادم الحرمين .. تكريم الفائزين بجائزة الأمير سلطان بن عبدالعزيز العالمية للمياه    محافظ الطائف يرأس إجتماع المجلس المحلي للتنمية والتطوير    هيئة التراث تُسجل 5 مواقع أثرية جديدة في منطقة جازان ضمن السجل الوطني للآثار    كتب و روايات في معرض الشارقة تحولت لأفلام عالمية    نائب أمير جازان يستقبل الرئيس التنفيذي لتجمع جازان الصحي    في 100 لقاء ثنائي.. قمة الرياض للتقنية الطبية تبحث توفير فرص ذهبية للمستثمرين    رئيس جمهورية تشاد يصل إلى المدينة المنورة    الدولار يحافظ على استقراره قرب أعلى مستوى في ستة أشهر ونصف    الطائرة الإغاثية السعودية ال 23 تصل إلى لبنان    الكويت تدين تصريحات وزير حكومة الاحتلال بشأن فرض السيادة على الضفة الغربية    الأرصاد: الفرصة مهيأة لتكوّن السحب الرعدية الممطرة    محمية جزر فرسان.. عودة الطبيعة في ربيع محميتها    السعودية الأولى خليجياً وعربياً في مؤشر الأداء الإحصائي    بتوجيه من أمير مكة.. سعود بن مشعل يرأس اجتماع لجنة الحج    إطلاق 80 كائناً مهدداً بالانقراض في محمية الأمير محمد بن سلمان    انطلاق المؤتمر الدولي لأكاديميات الشرطة    5 مشاهير عالميين أصيبوا بالسكري    إحالة ممارسين صحيين للجهات المختصة.. نشروا مقاطع منافية لأخلاقيات المهنة    في بيتنا شخص «حلاه زايد».. باقة حب صحية ل«أصدقاء السكري»    ماذا لو نقص الحديد في جسمك ؟    الأهلي يطرح تذاكر مواجهته أمام الوحدة في دوري روشن    خطة لاستحداث 16 ألف وحدة سكنية جديدة خلال عام    الاتفاق يعلن اقالة المدير الرياضي ودين هولدين مساعد جيرارد    غارات إسرائيلية عنيفة على ضاحية بيروت    ولادة أول جراء من نمس مستنسخ    «سامسونغ» تعتزم إطلاق خاتمها الذكي    الأخضر يحتاج إلى وقفة الجميع    المنتخب السوداني يسعى لحسم تأهله إلى أمم أفريقيا 2025    يأخذكم في رحلة من الملاعب إلى الكواليس.. نتفليكس تعلن عن المسلسل الوثائقي «الدوري السعودي»    «طريق البخور».. رحلة التجارة القديمة في العُلا    السِير الذاتية وتابوهات المجتمع    أحمد محمود الذي عركته الصحافة    إضطهاد المرأة في اليمن    يسمونه وسخًا ويأكلونه    رحب بتوقيع" وثيقة الآلية الثلاثية لدعم فلسطين".. مجلس الوزراء: القمة العربية والإسلامية تعزز العمل المشترك لوقف الحرب على غزة    فوبيا السيارات الكهربائية    «نأتي إليك» تقدم خدماتها ب20 موقعًا    «الغذاء»: الكركم يخفف أعراض التهاب المفاصل    التحذير من تسرب الأدوية من الأوعية الدموية    أسبوع معارض الطيران    الرهان السعودي.. خيار الأمتين العربية والإسلامية    إطلاق 80 كائنا فطريا مهددا بالانقراض    الأمر بالمعروف بجازان تفعِّل المحتوي التوعوي "جهود المملكة العربية السعودية في مكافحة التطرف والإرهاب" بمحافظة بيش    أمير الرياض يطلع على جهود الأمر بالمعروف    مراسل الأخبار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مئوية "المنار" مشاركة رشيد رضا في بناء الدولة العربية الحديثة : من العثمانية الى العروبة
نشر في الحياة يوم 31 - 07 - 1999

تحولت الذكرى المئوية لصدور مجلة "المنار" 1899 - 1998 الى مناسبة لبعث الاهتمام من جديد بالمجلة ودور صاحبها الاصلاحي في فترة مهمة من فترات العالم العربي والاسلامي اتسمت بالتحديات والتساؤلات والاجتهادات في اتجاهات متناغمة حيناً ومتناقضة حيناً. ومع ان العقد الاخير شهد اعادة اصدار "المنار" وصدور كتب عدة ورسائل ماجستير ودكتوراه عن جوانب متعددة فكرية وسياسية وفقهية في حياة محمد رشيد رضا ومجلة "المنار"، الا ان المئوية في حد ذاتها ساهمت في اجتذاب اسماء معروفة سبق ان كتبت ونشرت عن رشيد رضا واسماء جديدة تكتب بعقلية ومنهجية جديدتين للخوض في هذا المجال سواء لاطلاق افكار باتت معروفة او لاستحضار وضع العالم العربي الاسلامي قبل مئة عام من خلال افكار ومواقف رشيد رضا، حيث يلاحظ ان الكثير من القضايا الجديدة التي طرحت لا تزال مفتوحة على رغم مرور حوالى مئة عام.
وهكذا، بعد مئوية رشيد رضا في طرابلس - لبنان، ومئوية رشيد رضا في القاهرة، ومئوية رشيد رضا في لندن، نظّمت أخيراً مئوية اخرى في الاردن بالتعاون ما بين جامعة آل البيت والمعهد العالمي للفكر الاسلامي خلال 28 و29 الشهر الحالي بمشاركة باحثين من لبنان وسورية والاردن ومصر والجزائر والمغرب والمملكة المتحدة والولايات المتحدة وذلك حول "الشيخ رضا: دوره الفكري ومنهجه الاصلاحي". وتميزت هذ الندوة بالتركيز على بعض المحاور مثل خصوصيات المرحلة التاريخية التي عاش فيها محمد رشيد رضا، وعناصر التكوين العلمي والثقافي له، والطبيعة السلفية لحركة رشيد رضا وامتداداتها التاريخية قبله وبعده، وموقفه من تيارات التحديث في عصره ومنهجه في الاصلاح التربوي والتعليمي، ورؤيته الى الاصلاح السياسي، ومنهجه في الفقه والتعامل مع مستجدات الواقع. تضمنت الجلسة الافتتاحية كلمات الدكتور محمد عدنان البخيت رئيس الجامعة والدكتور عبدالحميد ابو سليمان رئيس المعهد العالمي للفكر الاسلامي والدكتور فتحي ملكاوي المدير التنفيذي للمعهد والاستاذ هشام رضا حفيد رشيد رضا الذي جاء خصيصاً، وركزت كلها على اهمية هذه المناسبة وما ساهمت به الاوراق المشاركة.
أما الاوراق المقدمة التي بلغ عددها 15 ورقة، فقد توزعت على أربع جلسات صباحية ومسائية. وتضمنت اوراق الجلسة الاولى "خصوصيات المرحلة التاريخية في حياة رشيد رضا" لأحمد الشوابكة"، و"الشيخ رشيد رضا وتحولات الفكر الاسلامي المعاصر" لزكي ميلاد، و"من العثمانية الى العروبة: مشاركة رشيد رضا في بناء الدولة العربية الحديثة 1918 - 1920".
وتضمنت اوراق الجلسة الثانية "النسيج القرآني وأثر المرويات في اسباب النزول والاسرائيليات في تفسير المنار" لأحمد القضاة، و"الخصائص المميزة لتفسير المنار" لمحمد الزغلول، و"معالم فقه المقاصد عند رشيد رضا" لعبدالرحمن الكيلاني.
اما الجلسة الثالثة فتضمنت اوراق "رؤية رشيد رضا للاصلاح السياسي في الدولة العثمانية من خلال العلاقة بين العرب والترك" لأنيس الابيض، و"معالم سلفية عند الشيخ رشيد رضا في تفسير المنار" لبسام العموش، و"مفهوم الوحي عن رشيد رضا" لقحطان الدوي.
واشتملت الجلسة الرابعة على اوراق "مفهوم التجديد السياسي في فكر رشيد رضا" لمصطفى منجود، و"الاصلاح السياسي عند الشيخ رشيد رضا بين بناء دولة اسلامية نموذجية واقامة جامعة اسلامية" لأحمد سالم، و"الاصلاح السياسي الشرعي عند الشيخ رشيد رضا" لمحمد خروبات.
وكانت قدمت اوراق اخرى لم يتمكن اصحابها من الحضور في اللحظات الاخيرة مثل ورقة ابو القاسم سعدالله "تأثير مجلة المنار والشيخ رشيد رضا في المغرب العربي"، وورقة حسام جزماتي "السنن الالهية في تفسير المنار".
وتضمنت الجلسة الختامية توصيات الندوة التي ستصدر لاحقاً مع هذه الاوراق في كتاب خاص.
في ما يلي مساهمة محمد الارناؤوط:
تعكس "المنار" خلال سنوات صدورها فترة حاسمة من تاريخ العرب والمسلمين حيث كانت المنطقة تموج بالتحديات الخارجية والنزعات الاصلاحية من سلفية وتحديثية، وهي تعبّر بدورها عن تموج افكار ومواقف صاحبها من التطورات المتلاحقة الجامعة الاسلامية، سلطنة - خلافة عبدالحميد الثاني، الثورة الدستورية في 1908، سلطة الاتحاد والترقي، الحرب العالمية الاولى، الثورة العربية، الثورة البلشفية، الحكومة العربية في دمشق… الخ. واذا اعتبرنا "المنار" مصدراً اساسياً لأفكار ورؤى رشيد رضا، وبالتحديد لتطور مواقفه الفكرية والسياسية، فان مشاركته المباشرة في الحياة الحزبية حزب اللامركزية، حزب الجامعة العربية، حزب الاتحاد السوري، حزب الاستقلال والسياسية بناء الدولة العربية الحديثة في دمشق تساهم بدور ما في توضيح تطور مواقفه الفكرية والسياسية، وهو ما تحاول هذه الورقة التركيز عليه بالاستناد الى المصادر الاولية.
صدر العدد الاول من "المنار" في القاهرة التي كانت عملياً خارج الدولة العثمانية، التي كانت تجمع بين مختلف التيارات الفكرية والسياسية سواء الرافضة للدولة العثمانية او المدافعة عن الدولة العثمانية. وقد كان واضحاً منذ البداية ان رشيد رضا اختط لنفسه خطاً وسطاً يجمع بين المحافظة على الدولة العثمانية باعتبارها دولة الخلافة وبين اصلاح هذه الدولة بما يتناسب اكثر مع مصالح العرب والمسلمين. ولذلك لم يكن من المستغرب ان تصادر السلطات العثمانية نسخ العدد الثاني من "المنار" في بلاد الشام بعد توزيعها بسبب المقال الافتتاحي لرشيد رضا "القول الفصل في سعادة الامة" وفي الواقع لم يشأ رشيد رضا ان يشير الى هذا الموقف في العدد اللاحق ل"المنار" لانه كان يحرص على استمرار سياسة المجلة المحافظة على الدولة العثمانية مع النزعة الاصلاحية المميزة لها، وانما ارجأ ذلك الى وقت/ عدد متأخر حين تحول من المحافظة على الدولة العثمانية الى الدعوة للدولة العربية المستقلة.
وتجدر الاشارة الى ان عثمانية رشيد رضا لم تحل بينه وبين وعيه وطرحه للعروبة والدعوة الى تآلفها مع الامة الاسلامية/ الدولة العثمانية. وهكذا طرح رضا في الاعداد الاولى/ المبكرة الصادرة خلال 1900 قضية العروبة بمفهوم خاص، حين اكد في مقالة له بعنوان "مدنية العرب" على ان "العروبة التي نقصدها ليست عروبة الجنس انما عروبة الدين واللسان". وفي هذا السياق اخذ رضا يؤكد منذ ذلك الوقت حوالى سنة 1900 على الارتباط المصيري بين العروبة والاسلام من خلال جدلية الضعف/ النهوض والواقع/ المستقبل. ففي مقالة اخرى له بعنوان "الوحدة العربية" ينطلق رضا من ان العرب "عز الاسلام وبيضته، وبلادهم منبع كلمته ومبعث اشعته، فيها أسس بنيانه وفيها تقام اركانه. فاذا غلب الاجانب العرب على ارضهم فذلك هو الموت الاحمر". ومن هنا فقد اقتصر رضا خلال السنوات الاولى من "المنار" في دعوته التوفيقية على تعزيز وضع العنصر العربي داخل الدولة العثمانية لكي يساهم اكثر ضمن الدولة العثمانية في الدفاع عن نفسه امام الخطر الخارجي الاوروبي "اذا وقعت الواقعة".
ومع تصاعد المعارضة في الدولة العثمانية واندلاع الثورة الدستورية في تموز يوليو 1908 تفاءل رضا بهذا التغير وتحمس لاعلان الدستور على عكس اغلب معاصريه من علماء المسلمين. ولكن بعد تولي جمعية الاتحاد والترقي السلطة اخذت السياسة الجديدة المتحيزة للترك على حساب العرب تقلق رضا وتستثير مشاعره العربية وتطور افكاره ومواقفه تجاه الدولة العثمانية/ الدولة العربية. فقد توجه في مقالاته الآن الى نقد هذه السياسة الاتحادية والتركيز على اهمية العنصر العربي في الدولة العثمانية والدعوة الى اكبر قدر ممكن من التعاون والتفاهم بينهما، وحتى الى اشراكة جديدة عربية - تركية تنهض بها الدولة العثمانية وتواجه الاخطار المحدّقة بها.
وقد تبلور هذا التطور اكثر في افكار ومواقف رشيد رضا خلال السنوات المضطربة اللاحقة 1912 - 1916 وذلك من خلال مشاركته في تأسيس "حزب اللامركزية" في القاهرة خلال 1912، الذي ابقى مطالبه الاصلاحية فيما يتعلق بالعرب ضمن المظلة العثمانية، والذي نظم المؤتمر العربي بباريس خلال 1913 كتاب المؤتمر العربي الاول، بينما اسس في 1914 بعد يأسه من الاتحاديين الحزب السري "الجامعة العربية" الذي بلور بشكل مبكر مشروع كونفيديرالية عربية تحالف سياسي وعسكري واقتصادي بين كافة امراء وحكام الجزيرة العربية، وشارك في الاتصالات السرية التي كانت تجريها بريطانيا مع شخصيات المنطقة خلال 1914 - 1916. وفي هذا السياق تقدم رضا في خريف 1915، بعد ان تخلي عن عثمانيته بالتدريج، الى سير ر. وينغيت R.Wingate الحاكم البريطاني في السودان الذي آلت اليه الاتصالات بعد ستورز في القاهرة بمشروع دولة عربية تشمل الجزيرة العربية والعراق وسورية تكون ضمن خلافة اسلامية جديدة. وفي الواقع لقد تصور رضا هذه الدولة وبنظام فيديرالي - برلماني، اذ تقوم في اقاليمها حكومات محلية ترتبط بحكومة مركزية يرأسها حاكم ويعاونه مجلس نيابي منتخب وحكومة منتخبة من المجلس. ومع ان هذه الدولة لغتها العربية ودينها الاسلام الا ان رضا يشدد في مشروعه على ان الحقوق الدينية والمدنية للفئات كافة مضمونة بقوة القانون، ولذلك لا يوجد ما يمنع ان يكون في الحكومة وزراء من غير المسلمين. ومن ناحية اخرى فقد تصور هذه الدولة العربية المدنية، التي اقترح ان يكون مقرها دمشق، ضمن خلافة اسلامية جديدة يكون مقرها مكة، حيث يتولى الخليفة المنتخب الشؤون الدينية فقط.
ويمكن القول ان الثورة العربية التي اطلقها الشريف حسين من مكة خلال حزيران يونيو 1916 جاءت لتمثل نقطة انعطاف بالنسبة الى رشيد رضا، اذ اخذ يخرج بأفكاره ومواقفه حول الدول العربية من السرية الى العلنية، ومن الافكار والمشاريع النظرية الى الامور والمواقف العملية التي جعلته يتوصل الى توفيقية جديدة مع تيارات التحديث.
وهكذا سارع رضا الى تأييد الثورة العربية واعتبرها اعظم خدمة للعرب والمسلمين لان "الخطر كان قد احاط بالدولة العثمانية واراد الشريف ان ينقذ حرم الله وجزيرة العرب من السقوط بيد الاجانب"، كما نشر في "المنار" المنشور الاول للثورة ووصفه بأنه "منشور كُتب بمداد الحكمة واصالة الرأي وشرف الغاية".
وعزز رضا هذا الموقف حين ذهب في العام ذاته 134ه/ 1916م الى الحجاز للاجتماع مع الشريف حسين، حيث القى خطبة سياسية مهمة في احتفال بمنى بحضور الشريف حسين، بيّن فيها رأيه في ضعف الدولة العثمانية وامتدح قيام الشريف بثورته الاستقلالية. ويلفت النظر هنا ان رضا بعد هذا الموقف العلني في تأييد الشريف حسين/ الاستقلال، اخذ يوضح في "المنار" مبررات هذا الموقف الجديد. وهكذا اخذ يركز الآن على فكرة رئيسية مفادها انه من مصلحة العرب والمسلمين ان يكون للعرب دولة مستقلة. ففي مقابلة بعنوان "المسألة العربية" نشرت في "المنار" خلال 1335ه/ 1917م يذكر رضا ان "مصلحة العرب السياسية ان تكون لهم دولة مستقلة… فالعرب امة من اقدم امم الارض وأعرقها في الاستقلال، ويصل الى ان السبب في ضعف الامة الاسلامية يعود الى ان ضعف مزايا امة العرب ولغتها واهمال معظم شريعتها وكل ذلك لعدم وجود دولة مستقلة لها"، لأنه "يستحيل ان ترتقي أمة بغير دولة".
ولكن في ذلك الوقت 1917 - 19187م 1335 - 1336ه اخذت تبرز في القاهرة تيارات مختلفة بين العاملين لأجل الاستقلال عن الدولة العثمانية سواء في ما يتعلق بحدود الدولة عربية او سورية او لبنانية محضة او بنوع نظام الحكم فيها دينية او مدنية/ علمانية. وفي هذا الاطار شارك رشيد رضا في ايلول 1918 بتأسيس اهم حزب للشوام في مصر حزب الاتحاد السوري، الذي قام رضا بوضع مسودة برنامجه وأصبح نائبا لرئيسه ميشيل لطف الله. ويلاحظ هنا ان رضا وجد نفسه في توفيقية جديدة سواء بين التيار العروبي الواسع وبين التيار الاقليمي الضيق، او بين التيار الاسلامي/ الديني والتيار المدني/ العلماني. فقد جاء هذا الحزب في الواقع حلاً وسطاً بين المنادين بدولة عربية واسعة، حيث ان الحزب اخذ بمفهوم استقلال اقاليم سورية واتحادها في دولة واحدة، كما ان هذا الحزب تبنى مفهوم الحكومة المدنية العلمانية للدولة الجديدة التي يسعى اليها، وذلك تحت تأثير الغالبية من المسلمين والمسيحيين التي كانت تدعو الى التحديث على أسس غربية. وعلى رغم تحفظ رضا فيما بعد على هذا الموقف الا ان وجوده في زعامة الحزب اعطى هذا الحزب اهمية معينة وسمح له بأن يشارك في بناء الدولة العربية الحديثة التي اعلنها في دمشق الأمير فيصل في 5 تشرين الثاني نوفمبر 1918م.
وتجدر الاشارة الى ان الاعلان المذكور ركز على تأسيس "حكومة عربية دستورية" تقوم على قاعدة العدالة والمساواة لجميع الناطقين بالضاد على خلاف مذاهبهم وأديانهم، وهو ما اعطى اشارة واضحة الى طبيعة الدولة القادمة على الطريق التي كانت "حديثة" بالمقارنة مع المفاهيم التقليدية للعثمانية الطويلة.
وفي هذا الاطار كان اركان "حزب الاتحاد السوري" قد انتقلوا الى دمشق بعد اعلان تأسيس الحكومة/ الدولة العربية، وانضموا الى "حزب الاستقلال" الواجهة العلنية للجمعية العربية الفتاة، الذي كان بمثابة الحزب الحاكم في الدولة الجديدة. وقد انتخب رشيد رضا في ايار مايو 1919 عضواً للمؤتمر السوري الذي كلف بوضع دستور للدولة الجديدة، ثم انتخب نائباً لرئيس المؤتمر لدى افتتاحه في 3 حزيران 1919 وأخيراً رئيساً له منذ 5 ايار 1920.
وفي الواقع لقد كلّف هذا المؤتمر فور افتتاحه بوضع دستور للدولة الجديدة، الا ان هذه المهمة لم تكن سهلة نتيجة للتباين الكبير بين التيار التقليدي الذي كان يمثله العلماء وتيار التحديث الذي كان يمثله المتعلمون الجدد. وهكذا بعد الجلسة الأولى الافتتاحية الرسمية توتر الوضع في الجلسة الثانية حين اعترض علماء دمشق على خلوها من البسملة فقابلهم النواب الآخرون وكلهم من خريجي المعاهد الحقوقية والعلمية العالية بأن "الأمة تتطلع الى فجر جديد تتجلى فيه فكرة تأسيس حكومة تتفق وروح العصر لا دخل فيها للدين، فتبقى الاديان السماوية في حرمتها وقداستها وتسير السياسة في انطلاقتها حسبما تقتضيه مصلحة الوطن اسوة بالأمم الراقية". وفي هذا الجو دارت مناقشات ساخنة حول مواد الدستور التي تتعلق بالعلاقة بين الدولة والدين والحقوق السياسية للمرأة وغيرها.
وفيما يتعلق بالموضوع الأول تجدر الاشارة الى انه قد اثير أولاً في جلسة 7 آذار مارس 1920 التي خصصت لاعداد قرار باستقلال سورية. فقد اقترح بعض الاعضاء من غير المسلمين ان ينص في قرار المؤتمر على ان حكومة سورية لادينية لائيكية، ووافقه بعض المسلمين وعارضه آخرون مقترحين ان ينص فيه على انها حكومة عربية اسلامية او دينها الرسمي الاسلام. وحين احتدم الخلاف بين الطرفين تدخل رشيد رضا باقتراح السكوت عن هذه المسألة لأنه "اذا اعلنت دينية يفهم منها جميع المسلمين انها حكومة كفر وتعطيل لا تتقيد بحلال وحرام، ومن لوازم ذلك انها غير شرعية فلا تجب طاعتها ولا اقرارها بل يجب اسقاطها عند الامكان". وقد وافقت اغلبية الاعضاء على هذا الاقتراح والاكتفاء باشتراط ان يكون دين ملكها الرسمي هو الاسلام. وبعد اعلان استقلال سورية في اليوم التالي 8 آذار 1920 بدأ المؤتمر بمناقشة مواد مشروع الدستور الجديد. وقد تأخر اقرار المادة الأولى التي تتعلق بنظام الحكم حتى 12 تموز 1920، حيث جاءت منسجمة مع نتيجة المناقشة التي دارت حول ذلك في 7 آذار 1920. وهكذا تضمنت المادة الأولى ان "حكومة المملكة السورية العربية حكومة مدنية نيابية عاصمتها دمشق ودين ملكها الاسلام"، أي أن العلاقة بين الدولة والدين الاسلام انحصرت في دين ملكها فقط.
اما فيما يتعلق بالموضوع الآخر الحقوق السياسية للمرأة فقد دارت حوله مناقشات حامية اكثر واخذت حيزاً كبيراً من الجلسات خلال نسيان ابريل 1920. وقد ثار النقاش نتيجة لاصرار بعض النواب على النص صراحة على مساواة المرأة بالرجل سياسياً ومدنياً وتمثيلاً وانتخاباً، مما اثار معارضة مضادة من علماء دمشق الذين قدموا مذكرة باسمهم تعارض اعطاء المرأة حق الانتخاب. ومع هذه المناقشات، التي تزامنت مع تولي رضا رئاسة المؤتمر، تبلورت اغلبية لصالح اقرار المساواة السياسية للمرأة مع الرجل وحقها في الانتخاب والترشيح، الا ان هذه الاغلبية اكتفت بتسجيل انتصارها في المحاضر لكي لا تثير "العوام" في الخارج، والابقاء على النص الوارد في مشروع الدستور الذي يشمل في المطلق الرجل والمرأة. فقد نصت المادة 10 على ان "السوريين متساوون امام القانون في الحقوق والواجبات"، بينما نصّت المادة 78 على انه "لكل سوري اتم العشرين من سنّه ولم يكن ساقطاً من الحقوق المدنية حق في ان يكون نائباًً".
الا ان هذه الدولة، التي لم يكن قد اكتمل بعد اقرار مواد دستورها، سقطت بسرعة امام تقدم الجيش الفرنسي بعد معركة ميسلون في 24 تموز يوليو 1920، واضطر رضا وغيره من رجال هذه الدولة مغادرة دمشق في اكثر من اتجاه. وقد اجتمع هؤلاء من جديد في جنيف خلال صيف 1920 بمناسبة انعقاد الجمعية العامة لعصبة الامم حيث عقدوا المؤتمر السوري - الفلسطيني لاثارة قضية الدولة السورية المحتلة امام عصبة الامم. وتجدر الاشارة الى ان هذا المؤتمر، الذي انتخب فيه رشيد رضا نائباً للرئيس ميشيل لطف الله قد توصل في 21 ايلول سبتمبر 1921 الى وجوب الاعتراف بالاستقلال الكامل لسورية ولبنان وفلسطين والاعتراف بحق هذه البلاد في ان تتحد معاً في حكومة مدنية نيابية تُدار على طريقة اللامركزية، اي وفق ما ورد في مواد الدستور التي أقرت حتى الاحتلال الفرنسي لدمشق.
ويبدو ان سقوط الدولة الفرنسية دفع رشيد رضا الى مراجعة هذه التجربة التي خاضها والعودة الى الاصل الذي انطلق منه - الدولة العربية، وذلك على رغم انشغاله طيلة العشرينات بموضوع الخلافة كتابة الخلافة او الامامة العظمى، القاهرة 1314ه/ 1922م ومشاركة في المؤتمرات التي خصصت لذلك مؤتمر القاهرة 1926 ومؤتمر مكة 1926 ومؤتمر القدس 1931. وهكذا نشر في نهاية العشرينات مشروعاً ل"توحيد بلاد العرب" للمؤلف الانكليزي غوردون كاننغ تضمن عقد مؤتمر في القاهرة او جدة او دمشق واتخاذ اجراءات محددة ل"توحيد الامة العربية"، ويتوج الامر بعقد "معاهدة ومحالفة بين سلطات الاتحاد العربي والامبراطورية الانكليزية". وربما يلفت النظر في هذا المشروع، بالاستناد الى تجربة الدولة العربية 1918 - 1920، ان رضا يمتدح هذا المشروع لما فيه من "آراء حكيمة في امكام الجمع بين مصالح الانكليز والعرب" لان صاحب المشروع ينطلق من "ان العرب يجب الا يتصورا وهم يتصورون انه يتسنى لهم الوصول الى هذه الغاية بغير مساعدة من الغرب" وبالتحديد لا بد "لكي ينتج هذا المشروع خير النتائج الحصول على تعضيد انكلترا ومعاونتها"، وفي الحقيقة ان تبرير رضا لهذا التعاون مع انكلترا لاجل الاستقلال/ الاتحاد العربي انما ينطلق من "حتمية" الوحدة العربية برأيه لان "جميع اهل الرأي والمكانة في الاقطار السورية والعراقية والحجازية والنجدية متفقون على بذل الأنفس والنفائس في سبيلها" سواء "بالسلم والمودة" وهذا الافضل للطرفين، او "بسفك الدماء" وهو ليس لمصلحة الطرفين حسب رأيه. وفي تطور لاحق واخير في افكار ومواقف رشيد رضا نجد انه قد تحمس بعد نشر هذا المشروع للعمل طيلة 1930 - 1934 لانجاز الوحدة بين سورية والعراق لكي تكون نواة الوحدة العربية التي كرّس لها سنواته الاخيرة.
* مدير معهد بيت الحكمة / جامعة آل البيت/ الاردن.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.