بمجرد أن يتبوأ مياس اليماني مكانه على المنصة لمداعبة كمانه تتدفق الألحان في انسيابية تامة معطرةً أرجاء المكان بأنغام تعبق بياسمين الشام وزهور فيينا. بخفة يمرر أصابعه على أوتار كمانه، فيبحر بها على"موج البحر"مزيناً"المرجة"بإيقاع محور ومبطن في نغمات أخرى... نغمات تبدو قريبة منك بقدر ما هي بعيدة. مألوفة وغريبة في الوقت ذاته. فمياس يبث نفحات من الشرق في موسيقاه، مضفياً عليها ألحاناً كلاسيكية مستقاة من صميم الغرب.. مزيج موسيقي يتغلغل في كيانك، ويخاطب فكرك. فهي تذكرك بالأيام الخوالي وتعيدك من حيث أتيت مبددة الإحساس بغربة تعتريك ومحركة شغف ذلك الأجنبي الغريب وفضوله ليزور بلاد الشام ولو مرة وينهل من حسنها المزيد. مزيج من الألحان الموسيقية التي تضعك بكل بساطة على مفترق تصل الشرق بالغرب وتحاكي أهواء الطرفين ومزاجيهما مؤكدة في تساميها التقاء الحضارتين وقدرتهما على التماهي والتعايش في انسجام من خلال لغة الموسيقى على الأقل. فمؤلف هذه الإبداعات ليس إلا شاباً سورياً لا يزال في مقتبل العمر فطر على الكمان. فمنذ نعومة أظافره وأصابعه الصغيرة تداعب أوتار هذه الآلة الموسيقية التي تعلم كيفية"التعاطي"والتفاعل معها وهو بالكاد تجاوز السادسة من العمر، مطوراً بينه وبينها علاقة خاصة كبرت وازدهرت مع مرور الأيام. فالكمان، أرقى آلات الوتر الموسيقي على الإطلاق، بات يشكل كما يؤكد مياس أداة رئيسة يعبر من خلال العزف عليها عما يجول في قلبه وفكره. لكن مجرد العزف ما عاد يكفيه أو يتسع لطموحاته إذ باتت الحاجة لتفريغ الأفكار والخواطر في قوالب"لحنية"ملحة... ولعل تلك الحاجة الكامنة في داخله دفعت به عام 2000 ليشرع في كتابة المقطوعات الموسيقية وتأليفها. ولعل تجربة الاغتراب التي يعيشها حالياً هي المحرك الرئيس لاختياره هذا النمط الموسيقي الفريد والذي يتميز بأنه يعالج اللحن الشرقي البسيط بوجهة نظر غربية. بدأ هذا الشاب مسيرته الفنية من المعهد الموسيقي العالي في دمشق، حيث نشأ. متتلمذاً فيه على أيادي أسماء كبار، عزف مياس على كمانه في الكثير من الحفلات، تارة منفرداً مع فيروز وصباح فخري وتارة أخرى مع الأوركسترا سواء في سورية أم مصر أم الأردن. ذلك الموهوب بشهادة الكثيرين، حمل"عوده الشرقي"وغادر إلى فيينا، ليكمل علمه في هذا المجال وينمي قدراته ويصقلها في مكان بعيد من صخب"الفن الاستهلاكي"الرائج في بلداننا وإلى بلد يتذوق أهله هذا الفن ويقبلون عليه معطين صانعيه قيمتهم الحقيقية . وهنا تمكّن مياس الذي يدرس الآن الماجستير في علم الموسيقى من اكتساب خبرة العزف مع الفرق الكلاسيكية الأجنبية الرائدة مثل فرقة مغني فيينا سانغر كنابن الشهيرة عالمياً، الأمر الذي جعله متميزاًَ في هذا الصعيد بجدارة. تلك الخبرات جمعها مياس وأضافها إلى تجربته"العربية السابقة"وصاغها لحناً بات يؤديه على مسارح فيينا. فمياس ما عاد عازفاً وإنما العنصر الأبرز في فرقة"مقام"نسبة إلى السلم العربي للموسيقى والتي أمكنه تشكيلها قبل نحو سنة وبعد أن تبلورت تجربته في فيينا، ليجسد من خلالها نمطاً جديداً متميزاً تمكن في فترة وجيزة من حصد جوائز عدة في النمسا وإيطاليا. نمط يتعاون هو وستة آخرون، بوسني وسلوفيني ونمسوي وياباني وتركي على بلورته وتقديمه الى الجمهور في قطع موسيقية يمتزج فيها الكمان بالفيولا والكاونتر باس بالإيقاع التركي. فالجذاب في موسيقى"مقام"يكمن في قدرة مياس على التحكم في مسار اللحن والانتقال السلس من مقاطع السمفونيات التي عزفها في المكان نفسه عباقرة الموسيقى الكلاسيكية إلى روائع التقاسيم العربية لتلتقي في كمانه ثقافتان ما يفرقهما أكثر مما يجمع بينهما. وليبدأ من حيث انتهى زرياب الذي رحل من بغداد إلى الأندلس، ومعه زاد كثير من الموشحات التي لا تزال تغنى حتى الآن. ففي فيينا تعودت أذن مياس على نمط بيتهوفن الميال إلى إظهار فكرة الصراع والاندفاعات الدرامية التي تعقب الهدوء وبات يجيد العزف بعد صدح الآلات النحاسية وكأنه يهدئ من روع ويضفي سكينة على نفوس أربكها زلزال عنيف، ذلك شعور يتملكك وأنت تستمع إلى هذا الشاب العربي وأنامله تسيِّر القوس على أوتار الكمان الأربعة... وصحيح أن مياس أتى حديثاً إلى فيينا، وصحيح أن سنة واحدة لا تكفي عازفاً كي يعتلي منصات دور أوبرا عاصمة الموسيقى العالمية، لكنه استطاع ذلك لما تجمع لديه من معرفة موسيقية في بلاد الشام حيث للطرب مشارب تتجاوز حدود الجغرافيا وتختزل التاريخ في لحظات تفوح أنغاماً وتبكي ذلك الماضي الجميل، حين كانت الموسيقى ظل حضارة لم يبق منها إلا ما يتردد في شدو الألحان. لقد جاء إلى هنا ليستكمل صرحاً موسيقياً بديعاً، يجمع بين جمال الشام وروعة فيينا، حيث تغنت في السابق بليالي أنسها الفنانة المرحومة اسمهان وكأن لحاضرة نهر الدانوب سحراً يستهوي أهل الشام أكثر من غيرهم.