عندما انفجر الخلاف بين "حماس" و "فتح" قبل توقيع اتفاق مكة، كتب النائب السابق في الكنيست الاسرائيلي رئيس حزب التجمع الديموقراطي عزمي بشارة، مقالة وصف فيها صراع الحركتين بأنه أشبه بتنازع سجينين على إدارة الزنزانة. وكان بهذا التشبيه يحاول تذكير رئيس السلطة محمود عباس ورئيس الوزراء اسماعيل هنية، بأن إنهاء الاحتلال، لم يتحقق، وبأن وحدة الحركتين شرط لتسريع الانسحاب الاسرائيلي. ومثل هذا الاستنتاج عرضه وزير الاعلام الفلسطيني الدكتور مصطفى برغوثي الذي طالب بتأجيل كل الخلافات العقائدية والأمنية الى حين التخلص من وطأة الاحتلال، واعتبر ان الصدامات الداخلية الفلسطينية هي افضل حل توظفه اسرائيل لتجنب مبادرات السلام. ولكن نداءات التهدئة والمصالحة فشلت في لجم المسلحين الذين فرضوا ارادتهم على القادة، وذهبوا بالقتال الى اقصى درجات العنف. وهكذا اضطر زعماء الفريقين الى حسم الخلاف عسكرياً، الأمر الذي انتهى باستيلاء"حماس"على مدينة غزة وطرد جماعة"فتح"منها. ويرى المراقبون انه في حال نجح اسماعيل هنية في توسيع نفوذ حركته ليشمل كل القطاع 350 كلم مربع يكون بهذه الخطوة قد أرسى دعائم دولة ميني - فلسطين، وهيأ الظروف لفتح حوار بينه وبين اسرائيل. السؤال الملح الذي يطرحه المحللون يتعلق بأسباب الانهيارات الأمنية داخل غزة، وبالدوافع العميقة التي أدت الى انفراط عقد حكومة الوحدة الوطنية؟ الجواب يبدأ مع رحيل ياسر عرفات وتثبيت محمود عباس مكانه، وعلى رغم الانتقادات التي تعرض لها أبو عمار، إلا ان زعامته داخل الحركة الوطنية الفلسطينية ظلت هي العنصر المهيمن على مختلف الأحزاب والحركات. ولما سقط رهانه على صدام حسين، اضطر للقيام بانعطافة تاريخية أوصلته الى أوسلو، ومن هناك أكمل عرفات مسيرته فوق طريقين متعارضين: طريق المناضل الذي وعد شعبه بالتحرير الكامل... وطريق السياسي الذي أجبرته الخلافات العربية على تقديم تنازلات مؤلمة والقبول بحل الدولتين. وبعد مرور أكثر من سنتين على وفاته لم ينجح وريثه محمود عباس في استقطاب الكوادر الحزبية التي استظلت نفوذ عرفات مدة تزيد على الأربعين سنة. وبدلاً من ان ينظف السلطة من"بطانة"عرفات وحاشيته، قام بتوزيع المكاسب والامتيازات على افرادها. وقد استخدمت"حماس"هذه الأخطاء أثناء حملتها الانتخابية، وفازت بالأكثرية لأن المقترعين توقعوا ظهور حكم نظيف يتناسب مع شعارات الثورة والتغيير. مع انتصار"حماس"الساحق تعرضت مصادر السلطة لازدواجية غير جامعة، بحيث بقيت السلطة مع"فتح"وانتقلت الحكومة الى منافستها"حماس". وبسبب اقتسام مسؤولية حكومة الوحدة الوطنية بين غزةورام الله، بدأت تتبلور في القطاع المعزول هوية فلسطينية جديدة مختلفة في طروحاتها عن طروحات السلطة الموجودة في الضفة الغربية. وقد فرض تباعد الموقعين بروز انقسامات قديمة بين فلسطينيي الداخل وفلسطينيي الشتات. وكان من الطبيعي ان تتأثر القرارات السياسية والإدارية بهذا الانفصال، خصوصاً عقب ظهور تناقضات أساسية أضعفت تماسك الحركة الفلسطينية، كما أضعفت انحياز الولاياتالمتحدة واسرائيل شعبية محمود عباس لأن تعامل الدولتين انحصر بوزراء السلطة. ثم جاءت حرب تموز يوليو التي هُزمت فيها اسرائيل، لتحرج ايهود اولمرت وتظهره بمظهر العاجز عن مفاوضة الشريك الفلسطيني، أي الشريك الذي يمثل اكثرية وزارية لا تعترف بها اسرائيل، وانما تطالبه بالموافقة على دعم قرارات لم يُستشر بشأنها. لدى سؤاله عن استعداد"حماس"للاعتراف باسرائيل، أجاب اسماعيل هنية بأنه سيزيل هذا العائق، عندما تعلن اسرائيل عن حدودها النهائية. وفي رأيه، ان الدولة اليهودية استولت على أكثر من نصف أراضي الفلسطينيين، ودفعت حدود 1967 الى ما وراء جدار الفصل. وقال ان"خريطة الطريق"رفضتها حكومة اولمرت ما لم يتم تعديل اربعة عشر شرطاً من الشروط التي وضع شارون تحفظه عليها. وهذا يعني ان التطورات الأخيرة ستعيد خلط الأوراق بين اسرائيل والفلسطينيين، وتقضي على كل ما قبلت به اسرائيل من حلول، بدءاً باتفاق اوسلو وانتهاء ب"خريطة الطريق". والسبب ان قيادة"حماس"في غزةودمشق خالد مشعل قد تتبنى برنامج اعلان الاستقلال الذي كرس في مؤتمر الجزائر سنة 1988 والمتضمن"إقامة دولة فلسطينية في قطاع غزةوالضفة الغربية المحتلين منذ 1967". وبما ان بقاء محمود عباس على رأس السلطة اصبح أمراً محرجاً له ولوزرائه، فإن استقالته ستكون المخرج المشرف الوحيد له عقب انهيار جهازه الأمني. ويتردد في رام الله انه تلقى تطمينات من واشنطن تجدد شرعية منصبه ودوره، لأن استقالته ستقوض كل الرهانات الدولية على قيام دولة فلسطينية منحازة للغرب. يجمع المراقبون على القول ان انتصار"حماس"في معركة غزة، أنهى عملياً السلطة الفلسطينية الأولى التي أسسها ياسر عرفات، ثم ورثها من بعده محمود عباس. ومع تشكيل حكومة الوحدة الوطنية وقبول مشاركة الفريقين، لعب أبو مازن دور الرئيس الانتقالي الذي أنهى أهلية السلطة في التوصل الى حل يقضي بإقامة دولتين. وهكذا يكون قرار الحسم العسكري في قطاع غزة، قد دشن مرحلة انتقال السلطة من رام الله الى مدينة غزة، كما دشن بالتالي ابتعاد السلطة الفلسطينية الجديدة عن المحور الأميركي - الأوروبي - الاسرائيلي، واقترابه من محور ايران - سورية. ولأسباب لوجيستية وجغرافية ستظل مصر هي الحاضنة لعزلة غزة، والمؤتمنة على الأموال التي ترسلها ايران الى"حماس". بثت شبكات التلفزيون يوم الخميس الماضي سلسلة مشاهد كانت أبرزها صورة اسرى"فتح"وهم يقتادون الى المعتقلات وقد خلعوا بذلاتهم العسكرية ورفعوا أيديهم استسلاماً. كما بثت مرات عدة صورة علم"حماس"وقد رفعه المقاتلون فوق"مركز الأمن الوقائي"الذي يديره محمد دحلان ومن قبله جبريل الرجوب. وفي تفسير قدمه صائب عريقات، لقناة"سي ان ان"، وصف هذه المشاهد بأنها تعكس حقيقة الوضع الذي تعتبره السلطة الفلسطينية انقلاباً عسكرياً. وابدى عريقات استغرابه لظهور كميات من السلاح في أيدي مقاتلي"حماس"، وقال ان ما يجري في شمال لبنان مرتبط ارتباطاً وثيقاً ب"موقاديشو"فلسطين. المعلقون الاسرائيليون وجدوا في هذا التشخيص ما ينسف المبادرة السياسية التي اطلع ايهود بارك الحكومة عليها، وقال انه سيعرضها على الرئيس جورج بوش أثناء زيارته لواشنطن يوم الثلثاء المقبل. وهي زيارة فاشلة بكل المقاييس، لأن"حماس"نسفت برنامجها السياسي والعسكري. على الصعيد السياسي كان اولمرت يتوقع تجديد المفاوضات مع ابو مازن بعد تزويد الجهاز الأمني بمصفحات ورشاشات ثقيلة، اضافة الى الافراج عن نصف بليون دولار من الأموال الفلسطينية المحتجزة، ومن المفروض أن تتم مراجعة المسار السوري من خلال الاشارات الايجابية التي قدمتها دمشق، ولكن عملية اغتيال النائب وليد عيدو، اقفلت هذا الملف لأن بوش اتهم سورية بمواصلة سياستها في لبنانوالعراق. عندما أعلن اولمرت ان بلاده لن تخوض الحرب نيابة عن"فتح"، انما كان يبدد المخاوف التي أعربت عنها وسائل الإعلام الرسمية حين ادعت ان اسرائيل قلقة من التداعيات الاقليمية لسقوط غزة في يد"حماس". وذكرت الصحف ان رئيس الجمهورية الجديد شمعون بيريز سيشجع الأميركيين على قبول الأمر الواقع، لأنه هو صاحب نظرية إقامة دولة فلسطينية في غزة. وقد وصفها بأنها قنبلة بشرية موقتة سوف تنفجر في المستقبل بسبب ضيق مساحتها على كثرة سكانها. وفي تصوره ان تمددها سيتجه نحو مصر، كما أن خطابها الاسلامي سيغزو شوارع القاهرة والاسكندرية. مرة أخرى، يطرح السؤال المتعلق بأسباب التوقيت المتزامن مع تفجير منارتي مرقد الإمامين العسكريين في سامراء، وعملية اغتيال نائب تجمع 14 آذار وليد عيدو، وإعلان سقوط قطاع غزة في يد"حماس". هل هي الصدفة التي ربطت بين افتعال مشكلة المخيمات بواسطة"فتح الإسلام"وبين تحركات القطع الحربية الأميركية قبالة الساحل الايراني؟ وهل هي الصدفة التي ربطت بين قرار الكونغرس منح رئيس وزراء العراق نوري المالكي فرصة أخيرة لضبط الأوضاع الأمنية المتردية، أم ان عملية تفجير المنارتين كانت عملاً من داخل صفوف الحراس، كما ادعى المحقق العسكري الأميركي بغرض إثارة فتنة طائفية تعجل في تفكيك وحدة البلاد؟ أم هي الصدفة التي ربطت بين توقيت تقديم تقرير الجيش اللبناني حول تسليح الميليشيات الفلسطينية، وعملية اغتيال النائب عيدو لمصلحة رئيس الجمهورية المقبل، كما لمح وليد جنبلاط؟ إن الأجوبة على هذه الأسئلة المحيرة تشير الى احتمال حدوث عمل أخرق بالغ الخطورة، سبق للمؤرخ ارنولد توينبي أن فسره حسب مفهومه لانهيار الامبراطوريات، بأنه راجع الى"انتحار الحكمة السياسية!". ** كاتب وصحافي لبناني