لقد جمع رئيس جمهورية فرنسا الجديد نيكولا ساركوزي في شخصيته صفات مقتبسة من تاريخ حياته الغني بالأحداث فاتسمت أفعاله وسياساته بميزات تعكس حرارة الشرق وحضارة الغرب ودهاء الأصول. فبحرارة شخصيته أبدل برودة السياسة الفرنسية المعهودة عند الساسة الفرنسيين التقليديين معلناً ما يشبه ثورة بيضاء على الترهل والبرود الطاغيين على الحياة السياسية الفرنسية، فكسب بذلك تأييد كثيرين من الفرنسيين. لقد عرف ساركوزي من أين تؤكل الكتف وفهم كيف يعزف على الأوتار الحساسة في آلة الانتخابات الرئاسية، حيث قدّم مشروعاً انتخابياً مبنياً على هواجس الشارع الفرنسي ونبضه. وهكذا رفع شعارات مناهضة الهجرة غير الشرعية ومعالجة أمور الأجانب واحتواء استشراء الجريمة وتخفيف الضرائب وخفض مستوى البطالة، فكسب المعركة الانتخابية الأساسية. وها هو اليوم يعطي إشارة دهاء سياسي أخرى حينما أعلن تشكيل الوزارة التي ضمت خمسة عشر وزيراً. فصدم بإعلانها خصومه السياسيين. لقد اخترق ساركوزي صفوف الحزب الاشتراكي وحزب الوسط بإسناد حقائب وزارية لشخصيات معروفة تنتمي لهذين الحزبين، خصوصاً وزارة الخارجية التي أسندها إلى الدكتور برنار كوشنر، وهو سياسي معروف وله شعبية كبيرة بين الفرنسيين وينتمي الى الحزب الاشتراكي. وهذه التسمية ولدت زوبعة كبرى في صفوف الحزب الاشتراكي الفرنسي الذي يعاني من الهزال والتعب أصلاً. أن انتماء شخصيات مهمة، أمثال كوشنر مؤسس منظمة"أطباء بلا حدود"العالمية، الى حكومة ساركوزي يعني زيادة التأييد الشعبي لهذه الحكومة ما يعني بالطبع تأييداً أكيداً لها في الانتخابات النيابية التي ستحصل في العاشر من شهر حزيران يونيو المقبل والتي على أثرها سيتم انتقاء الحكومة الثابتة لفرنسا. ان دهاء اللعبة السياسية الساركوزية لم تنته عند هذا الحد فقط، فالرئيس لم يكتف بكسب بعض أصوات الاشتراكيين والوسط إذ خص الجاليات المتحدرة من أصول شمال افريقيا بلفتة بتسميته رشيدة داتي وزيرة للعدل، وهي قاضية فرنسية تتحدر من أصول مغربية - جزائرية. يلاحظ المراقب السياسي بأن الحكومة الجديدة تميزت فوق كل هذا وذاك بصفات أخرى استثنائية من بينها أن أعضاء الوزارة الجديدة ينتمون الى مناطق جغرافية مختلفة. كما أن النساء لهن نصف الحكومة وهي ظاهرة استثنائية في تاريخ الحكومات الفرنسية. ان وجود وجوه متميزة داخل الوزارة الفرنسية الجديدة، لا تنبعث من طبقة ساركوزي وحزبه، مثل كوشنر وداتي لا يعني بالضرورة صناعة نسيج متباين وغير متجانس في شكله قد يؤدي إلى تمزقه مع حركة الزمن. بل ربما الأمر على العكس من ذلك تماماً، حيث أن هذا النسيج المتباين بالشكل ربما يعطي رونقاً جميلاً ومناعة وقوة، فإن أفكار كوشنر بخصوص السياسية الخارجية متطابقة الى حد بعيد مع أفكار ساركوزي وبرامجه، خصوصاً تلك المتعلقة بسياسة فرنسا المستقبلية مع الولاياتالمتحدة والشأن العراقي ومشكلة الشرق الأوسط ومشاريع فرنسا المستقبلية ضمن الاتحاد الأوربي. الدكتور محمد مسلم الحسيني - بروكسيل - بريد إلكتروني