عشر سنوات مرت على وفاة محمود محمد شاكر، المقاتل التراثي الشجاع. عَلمٌ من أعلام الثقافة العربية الحديثة، لم ينل حقه من الدراسة والاهتمام، لا في حياته ولا بعد موته. عاش وحيداً لأنه اختار أن يعيش وحيداً بعيداً عما كان يطلق عليه"حياتنا الأدبية الفاسدة"والحياة الأدبية في مصطلح شاكر هي الحياة الثقافية عموماً. ويبدو أن هذه الحياة الأدبية التي تنكّر لها شاكر، لا تزال تضيق به وتصر على تجاهله. كان محمود شاكر محققاً بارعاً، وشاعراً متميزاً، وأديباً ذواقاً، لكنه كان أيضاً مفكراً وباحثاً في التراث، ذو نظرة عميقة شمولية، لعله صاحب أفضل نظرية في المنهج تقدّم مدخلاً لقراءة التراث، هذه القضية التي صارت محورية في الفكر العربي الحديث. لقد باءت بالفشل كل محاولات الإسقاط الفوقي للحداثة الغربية في الحياة الإسلامية، ويعود هذا الفشل في أبرز أسبابه، إلى حالة الاصطدام المباشر مع التراث وامتداداته المعرفية والاعتقادية والاجتماعية والسلوكية. وطورت حالة الصدام هذه آليات منمقة جداً في إطار السعي الحداثي لتطويع التراث وتوظيفه لخدمة مرجعيات أيديولوجية متباينة، وإن القارئ اليوم ليحار في أمر هذا التراث الإسلامي الذي أسس مع الماركسيين مقدمات المادية في الفكر العربي، وساهم مع القوميين في بناء صرح الأمة القومية، وهو يساهم اليوم في تطوير علم الدلالة مع السيميائيين، ويشيد مع البنيويين جُدُرَ الفصل"القسري"في منظومات المعرفة. إن هذه التعددية غير المنضبطة وغير الصحية حتماً، هي نتيجة لغياب المنهجية الحقيقية في التعامل مع التراث. فعلى رغم أن قضية المنهج ومقوماته هي أول ما يُستَهل به مع كل بداية جديدة لقراءةٍ متجددةٍ للتراث، منذ قضية الأدب الجاهلي مع طه حسين إلى يومنا هذا، لكن قضية المنهج هذه تبقى هي الأصل والمعتمد، لأن معظم هذه المناهج المقترحة لم ترق حتى اليوم عن كونها مناهج توظيفية أيديولوجية. لقد قدم الراحل الكبير محمود محمد شاكر نظرية هي الأهم والأكثر علمية وصدقيةً في قضية المنهج حيث نستطيع أن نجد في كتابه"رسالة في الطريق إلى ثقافتنا"مقومات وأسس هذا المنهج. وأول هذه الأسس هو أن المنهج ليس شيئاً منفصلاً عن التراث أو عن الباحث في هذا التراث، يختاره من بين احتمالات عدة، لأن في طرح المسألة في هذه الطريقة قلباً للحقائق وتكلفاً شديداً، إن لم نقل بعبارة شاكر القوية بأن هذا"سخف وتشدّق وكلام لا يشوبه ذرو من الصدق"فالمنهج لفهم أي ثقافة وأي تراث إنساني نابع من هذه الثقافة ذاتها، وإن إدراك المنظومة التراثية هو إدراك لمنهجها، لأن كل منظومة فكرية ثقافية تستبطن منهجية تربط بين مكوناتها لتجعل منها كلاً واحداً، وبالتالي فإن الكاتب لا يكتب في ثقافة ما متجرداً عنها بل يكتب عنها بها، فلسنا من يكتب تبعاً لمنهج، إنما المنهج هو الذي يكتب فينا. إن عملية الفصل بين المنهج والتراث هو استمرار على المستوى اللاشعوري لعملية القراءة الاستشراقية التي يكتب فيها باحث غريب عن ثقافة غريبة يشعر بانفصاله عنها ويسعى عبر"المنهج"لمد جسور من التواصل النسبي بينه وبينها، وقد أظهرت هذه التجربة عجزها ونقصها. أما أن يستمر البحث في الثقافة العربية والتراث الإسلامي بذات الطريقة، فهذا أمر غير مبرر وغير مفهوم، إلا إذا افترضنا أن هذا الباحث يقرر بدايةً انتماءه الثقافي المغاير للثقافة التي يكتب عنها، والأمر كذلك في كثير من الأحيان. يقدم شاكر مفهوماً أراه مركزياً لفهم التراث والثقافة في شكل عام هو مفهوم"الثقافة المتكاملة"الذي يمثل الإحساس بها خلاصة المنهج وروحه، هذا التكامل الذي يحدثنا شاكر أنه قد توصل إليه بعد قراءة التراث العربي الإسلامي كله من فقه وحديث وتفسير وكلام وفلسفة وصولاً إلى كتب النجوم والفراسة والبيزرة والبيطرة. إن هذا التكامل هو الذي يعطى ثقافةً ما هويةً محددة وهو من يعطيها القدرة لأن تستمر في الحياة وفي الإنتاج لأن الإحساس بهذا التكامل وإدراكه هو الذي يؤهلها لأن تجدد نفسها تجديداً يزيدها قوة ووضوحاً فتستمر في الحياة مستجيبة لكل تغيراتها من خلال رؤيتها الخاصة للحياة مع الحفاظ على التوازن الدقيق بين مكونات الوجود ومنظومات القيم المتفاعلة. إن الإحساس بهذه الثقافة المتكاملة، هو ما كان يجب أن يُشَيّد عماد النهضة على أساسه، نهضة ديار الإسلام الحقيقية، كما يسميها شاكر، لا نهضة"الفرنسيس"البونابرتية. أن ضياع هذه الثقافة المتكاملة عبر تهميش المؤسسات والأفراد الحاملين لها هو الذي أدى بالثقافة العربية إلى الضياع والتشتت والعجز عن الإنتاج المثمر والبنّاء. يقدم شاكر مقومات المنهج في العمل مع شطري المادة والتطبيق، لكنه يولي الأهمية العظمى لا للمنهج ذاته بل لما يسميه"ما قبل المنهج"وهو متمثل في أصول ثلاثة: اللغة والثقافة والأصل الأخلاقي. إن هذه العناصر الثلاثة تمثل مقدمات المنهج، حيث يمثل إدراك اللغة والثقافة وامتلاكهما الامتلاك التام ضمانة الوصول إلى حس التكامل المعرفي في بنيان هذه الثقافة، فاللغة"ليست مجرد وسيلة للتواصل والتفاهم بين البشر، إنما هي وعاء المعارف جميعاً، وعاء حامل لتصورات وتراكيب أكثر عمقاً وتعقيداً". وأما الثقافة فهي تكاد تكون"سراً من الأسرار الملثَّمة في كل أمة من الأمم وفي كل جيل من البشر"، وهي مستمدة من المنظومة الاعتقادية لكل شعب من الشعوب، وتعبير وجودي عنها"ورأس كل ثقافة هو الدين... أو ما كان في معنى الدين". أما الأصل الأخلاقي فهو يتمثل في المبررات الأخلاقية للسعي المعرفي التي تضبط هذا السعي من أن يقع في الانتقائية أو التوظيفية التي تُبرز من التراث ما يناسب رؤيتها، أما ما لا يناسب هذه الرؤية فإنه يتم تجاهله، وإن لم يكن من الممكن تجاهله، فما أسهل ربطه بإحدى متناقضات السياسية التي يزخر بها تاريخنا ليخرج بالتالي من سياق المعرفة إلى سياق السياسة ليذوب هناك وينتهي. * باحث فلسطيني - سورية