يبدو أن هناك تيارين متعاكسين في النظر إلى طبيعة العلاقة التي تحكم النقد بالأيديولوجيا، وفي أولى النظرتين نرى فريقاً يقول بعدم وجود علاقة بين النقد والإيديولوجيا، وذلك على اعتبار أن النقد في ذاته شكل من أشكال الإبداع، وسيصعب على المحللين تفكيك النظر إلى النص النقدي لتبيان القاعدة الأيديولوجية التي يقف عليها أو ينبثق منها، وذلك على اعتبار أن النقد يذهب في الكتابة التطبيقية للكتابة عن نصوص إبداعية هي ذاتها تذيب نظر المبدع الأيديولوجي في تراكيب جمالية يصعب تتبعها كما يصعب على النقد تتبعها أيضاً، وحين الكتابة في الجانب النظري أو التنظيري فإنه يجب الأخذ بالحسبان موضوعين أساسيين، ذلك أن هناك موازين وأحكاماً نقدية جاءت عبر تاريخ النقد العربي، ويبدو أنها نمت في بيئة تحكمها أيديولوجيا مغايرة عن تلك السائدة في المجتمع العربي في الوقت الراهن، وهي تشكل جزءاً مهماً من الترسانة النقدية مهما بالغت في الذهاب نحو الغوص في الثقافة المتعددة للأمم والشعوب المسيطرة أو تلك التي تعيش في العالم الثالث. وتقر هذه النظرة بكون معظم النقاد يقوم تكوينهم الثقافي العام على ما يترجم من الثقافات الغربية، وهي بيئة مغايرة عن بيئتنا العربية، ومهما نقل من نصوص إلى لغتنا الأم لن نجد انعكاسات تلك الأيديولوجيا في داخل ثقافتنا المحلية، كما أن النقاد يذهبون في اتجاهات مختلفة، فمنهم من يرى أن الفن للفن وهناك النقاد الرمزيون والنفسيون .. الخ، ومنهم من يحرص على التماثل بينه وبين المناهج العلمية، وهي التي تدخل في الحياد التام تجاه النصوص، كما أن محاولة تفكيك العلاقة بين النقد والأيديولوجيا تحتاج إلى استخدام الحدس، وهو أي الحدس بعيد عن أن يكون موثوقاً تماماً في تلك المسألة. ولعل تيار التحيدية موجود في النقد، وخصوصا النقد الجامعي في أسوأ صوره، وهو الذي ينتج لنا دراسات تظل مركونة على الرفوف من ماجستير ودكتوراة، ولهذه النظرة جانب مضيء، ولكنه أقل فاعلية، ولعل الجانب السيئ في النقد الجامعي ينبع من الالتزام الصارم بالمنهج الذي يذهب إلى حدود فصل الشكل عن المحتوى تماماً، كما تفصل النص عن الحياة الاجتماعية وتقطعه عن الدوائر التي تتداخل معها نصوص متعددة تؤثر في الحياة، بحيث يصبح الأدب مجرد جثة هامدة لا حياة فيها. كما تذهب تلك النظرة إلى القول بانتهاء عصر الأيديولوجيا كما ظهر القول بنهاية التاريخ، وبالتالي لا وجود للأيديولوجيا بمعناها القديم إذ إن البشرية ذاهبة نحو إيجاد حلول جذرية للمشكلات الأخلاقية، وبالتالي البحث في تلك العلاقة بين الأدب والنقد والأيديولوجيا مسألة بلا طائل، بل يجب على العكس التخلص من تأثير الأيديولوجيا على كل من الأدب والنقد على حد سواء، ذلك ما شهدنا في القرن الماضي والحاضر من عسف الأيديولوجيا المتحكمة في الوجود البشري بكون السلطة وراء الطيب والشرير، وانهيار كل استجابة أخلاقية لمآسي العصر. بينما تذهب النظرة المضادة إلى نقض الفكرة السابقة في عدم وجود علاقة بين النقد والأيديولوجيا، وذلك من خلال تحليل الحجج التي يطرحها أنصار موت الأيديولوجيا، نعم تقر هذه النظرة بصعوبة فك العلاقة بين الشكل والمحتوى، بحيث تذهب نحو التفطن للعلاقة بين النصوص النقدية ومحتواها الإيديولوجي، ولكنها على الرغم من الصعوبة حركة ممكنة اعتماداً على مجموعة من العوامل التي هي في جوهرها تكوين الناقد، وذلك من خلال الاطلاع على عدد كبير من النصوص والتأني والصبر في تعرية النص ليبوح بمكنوناته، على الرغم من أن النص يحتوي على مكونات أدبية وفنية متعددة المستويات مصاغ ضمن لغة متعددة الطبقات، وهي التي تنبع منها تلك الصعوبة «إن صعوبة كهذه لا تتجلى في التلازم بين معرفة الناقد بالصفة الأدبية، ومعرفته بالعلوم الإنسانية فحسب، بل هي أيضا رهن بكون مقاييس الربط بين الشكل والمضمون قليلة، وفضفاضة، وغير ثابتة، وتعتمد على الحدس، قدر ما تعتمد على المعرفة، ويقينا أن الحدس ليس بالضرورة بعيداً عن العلم، إلا أنه صعب المراقبة، ويشترك لصحته توفر تجربة كبيرة، مع ملكة نقدية علمية صارمة». ولعل الذهاب نحو الأصول التاريخية للنقد العربي المعاصر، والادعاء بأن الأدوات وبعض المفاهيم التي يستخدمها الناقد هي وليدة عصر غير عصرنا، وتقر هذه النظرة بصحة هذا الموضوع ولكنها تكشف عن أن ذلك لا يخرج تلك المفاهيم من منظومة الناقد المعرفية، بمعنى أن التوظيف لتلك المفاهيم أو الأدوات الإجرائية تخضع لبنية المعرفة المتحصلة لدى الناقد، وبذلك تكون جزءاً من تلك المنظومة التي تسيطر عليها رؤى الناقد ذاته، بمعنى خضوع تلك الأدوات للمعرفة الحديثة، وذلك في بعض الأحيان ما يجعل بعد الباحثين يتصورون انطباق النظريات الحديثة على النظر النقدي القديم. لا يبدو أننا نستطيع أن نبتعد عن المصادر الأيديولوجية التي نبعت منها النظريات النقدية في ثقافات المركز، ذلك أننا نرى تأثير الفلاسفة في المجتمعات على تلك النظريات باعتبارهم منتجين لها، ويمكن تتبع مواقفهم تجاه الحياة مما يبرز أيديولوجيتهم، ولا يوجد في العالم أكثر من الفلاسفة ارتباطا بالأيديولوجيا فهم منتجو الوعي بها، كما أنهم من كبار معارضيها، فنظرية التعبير ساهم فيها كل من الفلاسفة مثل برجسون وشلنج جان جاك رسو والفلاسفة الاستاطيقيين أمثال أوجين فرن وهيرن وبنديو كروتشه روبين كولنجوود، وتبدو أنها نظرية خرجت ضمن صراع أيديولوجي بين التعبيريين والرومانسيين، ومن الممكن تتبع كثير من النظريات الفنية ومصادر تعبيرها الفلسفي، وبالتأكيد كان لها تأثير على النقد الأدبي الذي تبنى تلك المواقف باعتبارها مواقف للحياة وليست محصورة فقط على النص. بينما فهم القديم ليس إلا وسيلة نحو كشف الواقع الاجتماعي، وتبيان الموقف من الحياة بشكل عام، إن تصنيفنا للنص النقدي باعتباره نصاً إبداعيا سيوجه نظرنا نحو الرؤى التي يتمتع بها الناقد و تصف نظرته للحياة، وهو أمر من الممكن استجلاءه من خلال قراءة النصوص، فيمكن بسهولة كشف النص الذي يذهب نحو البحث عن تفكيك منظومة القديم، لا يهدف عبثا نحو إسقاط القديم وإنما يعبر عن رؤية للحياة المعاصرة وإيجاد صيغة مناسبة للتعبير عنها، ولا يعود يقف عند تفكيك منظومة القديم بمعنى الدحض، وإنما يهدف نحو بناء المستقبل والانفتاح نحوه، كما يمكن تفكيك ذلك النص الذي يشيد بالقديم وصيغه البالية ليؤكد ثبات الوضع الراهن على ما هو عليه، ويبني موقفاً مضاداً للتغيير بل يدعو للعودة للماضي من خلال العودة للصياغات القديمة وتكريسها كما تظهر في الأشكال الأدبية. قد سبق أن أشرنا إلى تصور يحيل إلى فكرة أن الثقافة العربية حين تترجم من الثقافات الأخرى لا تترك ما يترجم خارجاً عن بنية الثقافة العربية وإنما تخضعه لمعجمها وتصوراتها التي تقوم في مكمن اللغة، ومع استهلاك الناقد لتلك الأفكار المترجمة إنما يعيد تموضعها في داخل ترسانته المعرفية لتعكس موقفه هو من الحياة، وبالتالي تتجلى تلك المواقف من خلال ما يكتبه من نصوص لها أرضية معرفية وأيديولوجية. ولعل القارئ يدرك كيف انهارت فرضية عصر ما بعد الأيديولوجيا ومعها ذهبت أدراج الرياح فكرة نهاية التاريخ، ويبدو أن فكرة نهاية عصر الأيديولوجيا تقوم على تصور الورطة التي ذهبت إليها الثقافات المنتصرة في الخواء الروحي الذي زرعه العلم والعلمانية الشمولية في المجتمعات، ولكن على الرغم من ذلك نجد أن الأيديولوجيا تعمل في الحياة السياسية عند مجتمعات المركز، وذلك أمر محسوس في التعبير عن حل مشكلات المجتمع عبر التنافس بين الأحزاب، تلك الأحزاب تتبنى أيديولوجيات متعددة، ولكنها ليست متطاحنة حيث وجدت مخرجها من خلال الحياة الديمقراطية من جهة، ومن الجهة الأخرى في ديناميكية تلك الأحزاب التي تقوم وتنحل على اعتبارات مرحلية في بعض الأحيان، بينما تظل في البلاد العربية تحت هيمنة الأيديولوجيا في اتجاهات ثلاثة، تتمثل في السلطة السياسية والدينية والتعليمية والاجتماعية، بينما تبقى الأحزاب رجراجة في التعبير عن أيديولوجيتها كما في الأحزاب الليبرالية وبالطبع الناقد جزء من هذا المجتمع الذي تقوم فيه الرؤى المتصارعة وكما سبق أن أشرنا له وجهة نظر في هذه الحياة الاجتماعية التي لا يكاد يفلت منها شيء.