سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
"الحياة" تحاور الفكر العربي : أين نحن في العالم ؟ متى ينتهي الانحدار ؟ أي دور للمثقف ؟ علي أومليل : الحداثة أفكار نخبوية لا تفعل من دون قاعدة اجتماعية تساندها وتحقق أهدافها
"لأول مرة دخلنا في نقاش معمق، بل في صراع حول اصول الفكر الديموقراطي ومبادئ حقوق الانسان وقيم الحداثة. ويتوقف الآن على تأصيل هذه الاصول والقيم، انجاح المشروع العربي في التقدم الاجتماعي والتنمية الديموقراطية والحداثة السياسية".كاتب هذا الكلام هو الدكتور علي اومليل، الذي، لئن كان يشغل اليوم منصب سفير المملكة المغربية لدى لبنان، فإنه معروف في الاوساط الثقافية والفكرية العربية، ومنذ ما يقارب ثلث قرن، بصفته واحداً من ابرز المفكرين المغاربة الذين بدا حضورهم خلال العقود الاخيرة مؤشراً الى ازدهار فكري مغربي حلّ بديلاً عما يشبه الجمود في الاجتهاد الفلسفي والفكري في المشرق العربي. وهكذا، منذ صدور واحد من اول كتبه في بيروت "الخطاب التاريخي"عن فكر ابن خلدون في العام 1980، لم يتوقف اومليل عن الكتابة، بالفرنسية كما بالعربية، مركزاً اهتمامه على مسائل مثل التراث والهوية ومسألة الاختلاف والديموقراطية والعولمة... وهذه الاهتمامات كلها عالجها مفكرون عرب كثيرون من خلال نصوص عن فكر علي اومليل، نشِرت في كتاب جماعي صدر عن"المركز الثقافي العربي"بعنوان"الفكر السياسي العربي: قراءة في اعمال علي اومليل". والأهم طبعاً، كتبه ومن ابرزها"سؤال الثقافة: الثقافة العربية في عالم متحول"، وپ"الاصلاحية العربية والدولة الوطنية"وپ"في شرعية الاختلاف"وپ"في التراث والتجاوز"، وخصوصاً"السلطة الثقافية والسلطة السياسية". كل هذه الكتب والدراسات كانت في البال، حين توجهت"الحياة"الى علي اومليل بأسئلتها المطروحة ضمن اطار حوارات مع المفكرين العرب، قدمت خلال الأسابيع الفائتة سمير أمين وجورج طرابيشي والطاهر لبيب وبرهان غليون. اللافت في اللقاء مع علي اومليل انه بعد ثوانٍ ينسيك تماماً انه سفير وذو موقع ديبلوماسي... ذلك ان القضية الفكرية وقضية الديموقراطية والتحديث، تقع لديه في مكانة متقدمة على العمل الديبلوماسي. من هنا قال ما عنده، من دون حسابات دقيقة، وتطرق في هذا الحوار الى عدد من القضايا الشائكة... روى انه حين بدأ يكلف بمهماته الديبلوماسية، كان اعتراضه الأول انه عضو في عدد من المنظمات الحقوقية والفكرية الناشطة وصاحب دراسات وپ"مؤلفات مشاكسة"... وان هذا قد يتعارض مع الموقع الديبلوماسي، خصوصاً انه عُيِّن اولاً في القاهرة وانطلاقاً: في جامعة الدول العربية، قبل ان يختار الانتقال الى بيروت... كان الرد عليه واضحاً وحاسماً: كن سفيراً... ولا تغيّر شيئاً من افكارك ونشاطاتك الفكرية. وهكذا، بين القاهرةوبيروت فضّل اومليل حتى الآن، ان يتولى مهماته الديبلوماسية الرسمية، على ان يظل في افكاره، وبين رفاق الفكر، ذلك المفكر الذي يعرفون. على هذا الاساس كان معه الحوار الآتي: باعتبار ان اول اطلالة لك على القراء العرب، خارج المغرب، كانت من خلال كتابك"المنهج التاريخي"وهو في الاصل، كما نعرف اطروحة دكتوراه قدمت الى جامعة السوربون بالفرنسية ثم ترجمت الى العربية... ابدأ اسئلتي بواحد"خلدوني"طالما ان هذا الكتاب كان عن ابن خلدون ومنهجه في قراءة التاريخ: كيف تشخّص حال البلدان والشعوب العربية اليوم، من زاوية علم الاجتماع، لا سيما خلال المرحلة التي فصلت بين هزيمة حزيران يونيو 1967 وأيامنا هذه؟ - طالما انك اشرت الى هزيمة حزيران فلنبدأ بها، خصوصاً انها في ما اسفرت عنه، كانت الممهد لما تسميه"النهضة الثانية"في الفكر العربي الذي اتخذ منذ ذلك الحين سمات نقدية، وهو ما آمل ان نعود اليه بعد قليل. لقد كانت تلك الهزيمة صدمة كبيرة، للشعوب العربية ولشعوب المشرق العربي خصوصاً، وأسفرت عن نتائج بالغة الخطورة لعل ابرزها بدء ظهور ما يسمى"الاسلام السياسي"ثم الجماعات المتطرفة التي تتحرك تحت غطاء فهم خاص للاسلام. والسؤال هنا: هل حقاً نشأ هذان كرد فعل على تلك الهزيمة؟ ربما، ومع هذا اظن ان ثمة اسباباً اكثر عمقاً وتجذراً ادت الى تلك الولادة. هناك اختلافات جوهرية بين ما يسمى، اليوم، اسلاماً سياسياً وفكر الجماعات المتطرفة وتوجهها من ناحية، وبين السلفية الاصلاحية التي ظهرت في القرن التاسع عشر. فالسلفية الاصلاحية، وقبل أي شيء آخر، لم ترفض الغرب بل حاورته وسعت الى اقتباس ما اعتبرته اسباب قوته. بل أقول ان قضية السلفية الاصلاحية منذ القرن التاسع عشر كانت قضية التحديث، على خلاف ما يتصور كثر. بمعنى ان قضية التحديث لم تكن قضية اصحاب الحداثة وحدهم، بل كانت، ايضاً، قضية تلك السلفية الاصلاحية... لكن هذه كانت تريد تحديث الفكر والمجتمع الاسلاميين تحديثاً لا يفصلهما عن ترابهما. كانت تريد تحديثاً بهوية اسلامية. اما التيار الاسلامي المتشدد في ايامنا فيرفض الغرب جملة وتفصيلاً، من دون ان يدرك ربما انه يستخدم الوسائل التكنولوجية الحديثة لنشر دعوته وتجييش الاتباع، او الإعداد للعمليات الارهابية. على الأقل اعتقد بأنه لا يتساءل عما وراء هذه الآليات والمبتكرات العصرية من منظومة قيم وبنى ثقافية بنت المجتمعات الحديثة ومؤسسات الدولة وما الى ذلك. ولاحظت مرة كيف اننا نعيش الآن امام مفارقة محيّرة فحواها انه في الوقت الذي بدأت افكار وقيم حديثة تشق طريقها في بلداننا، وأصبح مطلب الديموقراطية وحقوق الانسان ملحاً، نمت وترعرعت تيارات تعتبر ان هذا كله مجرد تضليل غربي، لأنه"مناقض لهويتنا التراثية"! على أي حال، كون هذين التيارين، الاصلاحي وپ"الرجعي"، موجودين اليوم، معناه ان الصراع حول مشروعنا المستقبلي، بدأ فعلاً... اخيراً. فاليوم ثمة موضوعات ومسائل لم تكن داخلة في معمعة النقاش الفكري وحلبة الصراع السياسي، مثل علاقة الدين بالدولة، وقضية المرأة وحرية الفكر وحرية العقيدة والتعبير وپ"هل السياسة هي مجرد فرع من الشريعة"ام انه لا بد من ان تستقل السياسة المدنية عن احكام الشريعة. وهل يتعين، مثلاً، على قضية المرأة وحقوقها، ان تظل في حدود احكام الفقهاء واجتهاداتهم ام ان المبدأ الاساس يجب ان يكون مبدأ المساواة التامة بين الرجل والمرأة في الفرص والقوانين وأنواع المشاركة الاجتماعية؟ وهناك طبعاً جملة من قضايا اخرى مشابهة مثل مبادئ حرية الفكر والتربية وحرية المبادرة... هل هي حق مقدس للبشر أم انها تشكل تهديداً للقيم وخطراً يحيق بالمقدسات كما يرى المتشددون؟ ان حدة السجالات حول هذه الامور، تعني انه، وللمرة الاولى في التاريخ العربي الحديث، يتبلور هذان الاتجاهان ليصبحا طرفي صراع متجدد وعنيف احياناً. أين المثقفون؟ تعني ان الانتفاضة النهضوية الثانية فعلت فعلها... ولكن أين هم المثقفون - او المفكرون اذا شئت في هذا كله ? ان كثراً منهم صامتون او مدجّنون او ابتعدوا مشمئزين، فيما خان بعضهم ذاته وهادن آخرون انظمة وتيارات قومية متأزمة او اصوليات. فماذا تقول انت الذي اهتممت في معظم كتاباتك بالصوت الثقافي ودوره في حركية المجتمع...؟ - اولاً احب ان اتساءل: عن أي مثقف ترانا نتحدث؟ فإذا كنت تشير، الى مفكرين اسلاميين، الجواب السريع سيكون: ان هذا التوصيف كله لا ينطبق عليهم. فهم ومنذ زمن بعيد، دعاة نشطون يكتبون ويناضلون ويعقدون الاجتماعات، وينتجون في ايامنا هذه اشرطة وأفلاماً دعائية تحريضية. ومن هنا افترض انك تعني، قبل أي شيء آخر، اولئك المفكرين الذين كانوا - ولا يزال بعضهم - من حاملي الفكر الديموقراطي التقدمي. فاذا كان هؤلاء هم الذين تقول عنهم انهم صامتون فالسؤال البديهي: هل في وسعهم حقاً ان يكونوا فاعلين إن كفوا عن صمتهم؟ المسألة صعبة والسبب يرجع الى غياب رأي عام مستقل حقيقي لأفكار الحداثة. هذا الرأي العام هو اما غائب واما ضعيف. وأنا أعتقد بأن الحداثة ليست افكاراً، ليست نشاطاً فكرياً فحسب، بل يجب ان تكون هناك قاعدة مجتمعية حقيقية تساندها. قاعدة الحداثة لا تزال هشة في مجتمعاتنا. اتحدث مثلاً عن بنية الاقتصاد الحديث، لا تزال ضعيفة. والتنظيمات السياسية والنقابية ومجتمعات المجتمع المدني لا تزال حديثة العهد، لم تتجذر بعد في مجتمعاتنا. ناهيك عن غياب او ضعف المؤسسات الديموقراطية. والحال ان هذا يقودنا الى سؤال آخر: من اين، اصلاً، يأتي هؤلاء المثقفون من حاملي افكار الحداثة والديموقراطية؟ ومن أين يأتي جمهورهم؟ لكني فهمت قبل قليل ان ليس لهم جمهور... - لهم، على أي حال، جمهور مفترض وإلا لما تحدثنا عنهم. انهم يأتون من المدارس والجامعات ومراكز انتاج المثقفين المعهودة. لكن الملاحظ ان المعارف التي تقدمها الجامعات، بما في ذلك طرق التدريس الموغلة في التخلف والتكرار، اصبحت هي الجامعات الغالبة. الجامعات في معظم الاحيان، لم تعد تساير المعرفة المتقدمة كما بات حالها في مراكز انتاجها في العالم المتقدم. ولهذا كله اسباب تكون احياناً مالية هشاشة الموازنات المكرسة للتعليم، لكنها غالباً ما تكون سياسية ? ايديولوجية مثل"ضرورة تحصين المجتمع في مواجهة الافكار المستوردة والهدامة"... الى آخره. انطلاقاً من هذا اصبحت جامعاتنا غير وثيقة الصلة بمراكز البحث المتقدم. صارت تعيد انتاج معرفة محلية مجترة لا اكثر، يتكون فيها اساتذة كانوا طلابها فيكررون المعارف القديمة في حركة دوران على الذات، ويخرّجون المثقفين والجمهور زرافات تصبح في الغالب أكثر ميلاً الى التقليد والمحافظة. من هنا نلاحظ كيف ان جمهور المثقفين حاملي افكار التقدم والحداثة، أقل بكثير من جمهور حاملي الثقافة المحلية المتخلفة والمعاد انتاجها تحت عباءة التراث. في اختصار اذاً، ارجِع السبب الاساس الى غياب قاعدة اجتماعية للتحديث، ومن ناحية ثانية الى تهافت مراكز انتاج المثقفين وجمهورهم. العقل تكوّن في الغرب لكنّ هناك مفكرين وأساتذة تخرجوا في جامعات اوروبية وغربية في شكل عام. ان رصداً للخريطة الفكرية العربية المتقدمة يكاد ان يقول لنا ان"العقل العربي"الحديث تكوّن في الغرب... - هذا صحيح بنسب ضئيلة فقط، لكن غالبية مثقفي الجامعات في بلداننا القريبة منهم تخرجوا إما في جامعات محلية، وإما في جامعات في دول اشتراكية سابقة كانت تنتج المثقفين بالعشرات خلال سنة او سنتين وترسلهم الينا ليلعبوا ادواراً ايديولوجية اكثر منها معرفية. اما متخرجو الجامعات الغربية، فإن كثرين منهم يبقون في الغرب. وأما الذين يعودون فيتحولون الى اقلية مضطهدة، ومستهدفة من جانب التقليديين. نلاحظ ان ثمة مثقفين كثراً، بمن فيهم متخرجون في الجامعات الغربية، هم الآن وسط دائرة مركز القرار في بلدان عربية... وصل بعضهم الى الوزارة وآخرون الى السفارة وما الى ذلك... وثمة مثقفون عرب من هذا الطراز لهم مواقع عالمية ايضاً... - ربما... لكنني أعتقد بأن التفكير في هذه المسألة حالياً يجب ان يبدأ بالخروج من الصورة النمطية القديمة لعلاقة المثقف بالحاكم. ونعرف انه منذ ايام افلاطون كان هناك حلم بأن يكون المفكر حاكماً... والحاكم مفكراً او فيلسوفاً... تتحدث هنا عن رسالة أفلاطون السابعة... - اجل... انطلق منها، لكنني افكر بمفكرين كبار بينهم ابن رشد وابن خلدون داعبهم دائماً حلم ان يحكموا بأفكارهم، او ان يتبنى الحاكم افكارهم، او ان تتجسد هذه الافكار في السلطة... هذا نادراً ما تحقق. واليوم يشكو المفكرون العرب، حتى وهم في السلطة، من كونهم لا يؤثرون في القرار ولا يصغي الحاكم اليهم ولا يستشيرهم حقاً، ولو كانوا مستشاريه. الحاكم يتحاشاهم او يتجاهلهم، او يراقبهم او يقمعهم. من هنا شاعت منذ الثمانينات مقولة ردم الفجوة بين المثقف وأصحاب القرار. وأعتقد بأننا يجب ان نخرج اخيراً من هذه الاشكالية لنطرح الموضوع على الشكل الآتي: لا يمكن الاستمرار في احتساب العلاقة ثنائية، أي بين المثقف وصاحب السلطة، بل يجب ان نُدخل فيها طرفاً ثالثاً هو الرأي العام الذي يجب ان يشكل الجمهور الحقيقي للمثقف، فمن أجل ان يحسب لك الحاكم حساباً، لا يكفي ان تقنعه بأن لديك افكاراً نيّرة، وبأنك ستخدمه بأفكارك، او انك قادر على ان تضغط عليه كمثقف. لن يحسب لك حساباً الا اذا رأى ان لك جمهوراً هو قاعدتك الحقيقية وقوتك الحقيقية... أي ان لك رأياً عاماً. لكن الرأي العام الحقيقي لا يوجد إلا في المجتمعات الديموقراطية... الرأي العام هناك هو الذي ينتخب الحكومات او يسقطها، يصنع الحاكم او يلغيه. من هنا، فإن اصحاب السلطة في المجتمعات الديموقراطية يحسبون حساباً للرأي العام ويفعلون تبعاً لارادته، خصوصاً ان وجودهم في السلطة يمر عبر الانتخابات. اذاً السياسي والمثقف يتوجهان معاً الى الرأي العام... ولكن حيث يكون له وجود. اما في مجتمعاتنا العربية، فإن الرأي العام لا قوة له بل لا وجود ايضاً، اولاً لهشاشة الديموقراطية وغيابها، ثم لأن الذين يمسكون بالسلطة لا يوجدون فيها - في معظم الاحيان - بفضل صناديق الاقتراع. من هنا ارى ان قضية الديموقراطية هي التي يجب ان تكون القضية المحورية بالنسبة الى المثقفين والمفكرين، لأنها وحدها الكفيلة بخلق رأي عام يصبح سنداً حقيقياً للمفكر. اما الآن فمن الطبيعي ان يشكو مثقفونا لكونهم مهمشين في ظل غياب القاعدة الاجتماعية التي تحول افكارهم الى سلطة، ما يجعل قضية الديموقراطية قضية المثقف بامتياز، لسببين: اولهما انه لا يمكن المثقف ان يقوم بمهمته، أي ان ينشر بحرية وتكون له حرية الرأي والنقد والاعتراض، إلا اذا كان المجتمع ديموقراطياً. وثانيهما ان هذا يجعل مسألة الديموقراطية مسألة هوية، لا مسألة قيمة سياسية او اخلاقية، بالنسبة الى المثقف. لذلك، يستحيل ان نفصل العمل الثقافي الابداعي والكتابي عموماً، عن عمل المثقف لترسيخ الديموقراطية، طالما ان المسألة ليست اختياراً سياسياً او حزبياً، بل مسألة وجود، مسألة ان يكون المثقف او لا يكون. استطراداً، من ذا الذي يصنع الذهنيات العربية حالياً، وأي ذهنيات تُصنع على هذا النحو؟ - الذهنيات تتكون وتتبدل في بطء شديد وعلى المدى الطويل. قد تتغير الأحوال والأنظمة السياسية والاقتصادية، لكن الذهنيات لا تتبدل بمثل تلك السرعة. من هنا يسهل على المثقفين التقليديين والتراثيين ان يجدوا لهم جمهوراً وقاعدة واسعة من القراء والمتلقين لأن هؤلاء موجودون سلفاً، ومهيأون للتلقي. الامر اكثر صعوبة بكثير بالنسبة الى الذين يدعون الى افكار جديدة. لذلك أرى ان من الشروط الأساسية لتغيير الذهنيات، بالتالي السير في درب التقدم، تغيير نظم التربية والتعليم. والمسألة هنا حساسة ودقيقة جداً، لأن التغيير الجذري الذي يجب ان يطاول مناهج التربية والتعليم يجب ألا يكون فقط في محتوى ما يدرّس، وانما ايضاً في طرق التدريس وأساليب التناظر والنقاش. على المحتوى ان يكون حديثاً معاصراً يستطيع ان يدمج الانسان العربي في عالم اليوم، ولكن يجب أيضاً التدريس انطلاقاً من تطور مناهج ذاتية انسانية في التلقي والتفكير والنقد والاعتراض. حين نتحدث عن الذهنيات وتغييرها لا بد من ان نتساءل لماذا نجد مؤسسي الفكر الغربي الحديث بدأوا اول ما بدأوا بنقد العقل؟ بحثاً عن الجواب يتفق في رأيي المثاليون والماديون: فمثلاً نعرف ان ديكارت مختلف في مذهبه عن جون لوك او دافيد هيوم، ومع هذا توافق الثلاثة على نقد العقل، بمعنى ان العقل حتى حين تتراكم عليه المعرفة يصبح متجاوزاً، ثم عائقاً في وجه كل تغيير. لقد اوصل ديكارت العقل السائد الى درجة الصفر باحثاً عن معرفة جديدة. اما هيوم فتوصل الى فكرة الصفحة البيضاء مصفياً الحساب تماماً مع التراث، ساعياً الى معرفة جديدة كلياً. تغيير الذهنيات إما ان يكون عملاً جذرياً او لا يكون. صحيح ان من ينادي به، ومن منطلق افرادي اول الأمر مثقفون ومفكرون، لكنه بسرعة يتحول الى عمل تأسيسي منظم. فاذا كنا نلاحظ ان ثمة رتابة في اشتغال العقل، ووحدة في الذهنيات، على رغم اختلاف الاتجاهات السياسية بين"اليمين"وپ"اليسار"، علينا ان نرصد المواقف جيداً من خلال بعض المواضيع وردود الفعل عليها. لنأخذ، في عالمنا العربي، تعامل الفريقين مع قضية المرأة، لنجد انه تعامل واحد وتقليدي، ما ينبئنا بوجود ازدواجية خطيرة في سلوك"جماعتنا": هناك افكار جديدة معاصرة، لكن هناك ايضاً ممارسات رجعية. لذلك، النقد الجذري للعقليات غير ممكن الا عبر مروره بنقد جذري للموروثات كما تراكمت في الاذهان، والانطلاق من ذلك النقد للوصول الى بناء جديد للعقل العربي يقوم على الهدف نفسه الذي سعى اليه نقاد العقل من مؤسسي الفكر الحديث في العالم. ماذا كان هدفهم؟ اولاً ان يفكر المرء بعقله، في زمنه ويتخلص من سلطة الأموات، وثانياً ان يسعى الى تقويض كل ذهنية تقبل الاستبداد. انه مشروع متكامل لا يتحقق الا في تكامله، ومن هنا مثلاً، نلاحظ كيف ان جماعة الموسوعيين خلال عصر التنوير الفرنسي جاؤوا بشعار بسيط هو:"هذه هي المعرفة الجديدة يا ناس... وهذا هو منهج بناء هذه المعرفة التي لا بد من ان تكون جديدة ونقدية وعقلية... اما شرط وجودها فهو تقويض العقلية التي تقبل الاستبداد"، خصوصاً ان الذي يحكم مستبداً، لا يحكم فقط بقوة سلطته الرعناء، بل لأنه يجد في مواجهته تعقيداً في العقول وقابلية"شعبية"بالاستبداد. النقد من الداخل ألا ترى انه كان عندنا، في ذروة العصر"الليبرالي"العربي الممتد من زوال الاحتلال العثماني، حتى بداية الانقلابات العسكرية، مفكرون مارسوا التفكير النقدي والنقد العقلاني، طه حسين وأحمد لطفي السيد بين آخرين...؟ - ابداً... لا اعتقد بأننا، حتى مع هؤلاء، وصلنا الى الفكر النقدي الحقيقي. خذ مثلاً طه حسين، حين كان في فرنسا اعجب بمفكرين فرنسيَين كبيرين: ديكارت ودوركهايم، لكنه حين عاد الى مصر وطبق"المناهج"التي تعلمها من هذين وغيرهما، وهي مناهج نقدية بالتأكيد، لم يطبق ذلك إلا على الدراسات الأدبية... بصرف النظر عن المسألة الاجتماعية الحقيقية... وطه حسين هو نفسه الذي عاد وكتب"على هامش السيرة"ثم"مرآة الاسلام"فأتت نصوصاً تقليدية. طبعاً ليس ضرورياً ان ننتظر من الحداثي ان يعبر عن موقف مناهض للدين... كلا، وانما اطالبه بأن يكون ثمة تناسق متواصل في فكره، وفي تعبيره عن هذا الفكر... اذاً، في رأيك لم تكن هناك لحظة نقدية فاعلة وحقيقية في تاريخنا الحديث؟ لمَ لا نعود هنا الى ما تلا هزيمة حزيران 1967، من نهضة ثانية حفلت بالأفكار النقدية الفاعلة؟ أذكر بكتابات عبدالله العروي، وصادق جلال العظم وعزيز العظمة... وكتاباتك انت ايضاً، ألم تتصد كل هذه الكتابات للنقد من منطلق عقلاني؟ - نعم، ولكن كانت هناك اشياء من الضروري ان تكتمل ولم تكتمل. منها - وفي مقدمها - اصلاح العقل من داخل المنظومة الدينية نفسها. مثلاً حين تأخذ هوبس، وهو من مؤسسي الفكر السياسي الحديث، تقرأ لديه نقداً عقلانياً للكتب المقدسة. ولدى سبينوزا تقرأ نقداً للتوراة... كل هذا كان ما انتج الفكر العقلي داخل الفكر الديني لا خارجه... ألا ينطبق هذا الكلام على المعتزلة؟ - ربما، لكن المعتزلة كانوا نخبة"معزولة"عن الرأي العام. وهم، كي يحافظوا على افكارهم التي لم تكن مقبولة من العامة، تحالفوا مع السلطة خلال الفترة الفاصلة بين المأمون والمعتصم، فأتى المتوكل ليطيح بهم من دون أن يحققوا اي فاعلية. الحداثة، أي حداثة تحتاج، الى قاعدة اجتماعية حقيقية، وهم لم تكن لهم أبداً تلك القاعدة المجتمعية. لكنني اوافق معك على انهم كانوا من اسس للعقلانية من داخل الفكر الاسلامي. حديثنا دار في شكل عام عن المجتمعات العربية من دون أي تطرق الى ما يسمى"الخصوصيات القطرية"، فهل في امكاننا دائماً، ان نتحدث عن وحدة ثقافية عربية؟ - في السياسة والاقتصاد هناك، بالتأكيد، عدم تكافؤ بين بلد عربي وآخر. يرجع ذلك الى عاملين، اولهما وجود او عدم وجود تراكم ثقافي وجامعات ومراكز بحث. والثاني مستوى هامش الحريات المتاح. وعلى رغم هذا تظل الرابطة الثقافية العربية هي الأساس، خصوصاً انها باتت اليوم مسنودة بوجود وسائل الاتصال الحديثة. خذ، مثلاً، جريدة"الحياة"، انها تُقرَأ، على الورق وعبر الانترنت، في العالم كله، وفي انحاء العالم العربي كله... وخذ الفضائيات وبرامجها وانتشارها، ففي الماضي لم يحدث ان تواصل العرب، فكرياً وثقافياً، اكثر مما هم متواصلون في زمننا هذا. واللغة تلعب في هذا الاطار دوراً كبيراً، لأنها اداة التواصل الرئيسة على رغم وجود لغات أخرى منطوقة الامازيغية والكردية والآشورية... وصولاً الى الفرنسية والانكليزية... العربية هي التي تظل أداة التواصل الرئيسة. لكن المفارقة، هنا، تكمن في انه فيما يتواصل العرب اكثر من أي وقت مضى، ثمة تراجع على المستويات كلها. أي ليس ثمة اليوم ما يسمى"النظام العربي"على رغم كثرة الحديث عنه، وليس هناك ولو حد ادنى من التنسيق السياسي وليس ثمة كتلة سياسية عربية فاعلة على الصعيد العالمي. ناهيك عن ضعف التبادل الاقتصادي بين العرب. من هنا، وعلى رغم صحة القول بوجود تواصل عربي فكري وثقافي - وفني ايضاً - يظل هذا كله غير فاعل، إن لم ترفده اسس اقتصادية وسياسية تدعمه وتعطيه فاعليته... حلم رجل "العلم" وواقع السلطة "إن السلطة التي أصبحت للكاتب الحديث ما هي سوى استمرار للحلم الذي راود رجل"العلم"من قديم، وهو أن يحكم بواسطة أفكاره، ذلك كان حلم أفلاطون، وراود الفقهاء عندنا كلما طمح الفقيه الى ان يكون"معلم السلطان ومرشده الى طرق سياسة الخلق وضبطهم"، وعلى الجملة، فقد كان هذا هو مطمح كل مالك لمعرفة أرادها ان تكون سلطة. هل هي البنية الناظمة المعرفة والسلطة نفسها، تتكرر في كل العصور وفي كل الثقافات مع اختلاف شكلي للأدوار؟ أم أن التاريخ أحدث علاقة جديدة بينهما في العصر الحديث نتيجة للعوامل التي ذكرنا انتشار الطباعة ووسائل الاتصال، تعميم تعليم بمحتوى مدني عصري، مسلسل إقرار حرية النشر والتعبير، تكوين رأي عام فعال...؟ الواقع اننا امام سلطة للكاتب من نوع لم يعهده أسلافه. فالسلطة العلمية التي كان يطمح اليها الفيلسوف كانت ترتكز على نخبة، وكانت غايتها ان تكسب الحاكم الى جانبها لتتحد فيه السلطة والفلسفة. وهكذا زعم مثلاً كتّابنا ومتأدبونا القدماء ان الاسكندر"جمع"في حكمه بين السلطة والفلسفة، بفضل تعليم أرسطو، بحسب اعتقادهم. والسلطة العلمية التي كان يطمح اليها فقهاؤنا كانت تستمد شرعيتها من عمومية الشريعة وإلزامها للجميع، مجتمعاً وحكاماً.... وحين يدعو كتّابنا العرب المحدثون الى"الالتزام"، فهي دعوة تعني ان هناك سلطة حقيقية للكاتب، وان هذه السلطة تختلف مرتكزاتها ومرجعيتها عما كانت عليه سلطة"العلماء"في المجتمع الاسلامي التقليدي، وهو ما لا يشهد له واقع الكاتب العربي، لأن مثل هذه السلطة تفترض: 1- وجود هذا"الكاتب"بمفهومه ودوره الحديثين، الامر الذي يجعله يختلف عن اسلافه من حملة العلم في المجتمع الاسلامي، فقهاء كانوا او متكلمين او فلاسفة. 2- ان الكاتب داعية الالتزام هو داعية للتحديث وحاملاً للحداثة الثقافية، بالتالي فهو رائد الدعوة الى التغيير ويضع سلطته في مقابل السلطة. 3- ان الكاتب داعية الالتزام يتوجه بانتاجه الى جمهور القراء الواسع في مجتمع مدني يعوّل فيه على سلطة الرأي العام يستمد منه سلطته الفكرية، وشتّان بين"الأمة"او"الشعب"في المفهوم الدستوري الديموقراطي الحديث، وبين مفهوم"العامة"عند الكتّاب القدماء، فكان موقفهم منها، إما الإهمال، او الاحتقار، او التخوف من كونها مكمن"الفتنة"، وقد سخروا علمهم لإدخالها في بيت طاعة الحكام. ونظراً الى غلبة"الأمية"، فإن"العامة"لم تكن هي المستهلك لبضاعة اهل العلم، باستثناء صاحب العلم الديني فقيهاً او متصوفاً، كان علمه الديني ألصق بجمهور عامة الناس. وكما ان العامة كانت بالنسبة الى الحاكم موضوعاً لبسط السلطة، فقد كانت ايضاً بالنسبة الى الفقيه موضوعاً لبسط النفوذ، أي ان العامة كانوا في كلتا الحالتين مادة لانفاذ سلطتين: سلطة الحاكم القهرية وسلطة الفقيه العلمية. وطبيعي ان يحصل تنافس او صراع بين السلطتين حين لا يكون العالم الفقيه خديماً او مدارياً للحاكم، وهو ما كان يحدث في غالب الاحيان". * من كتاب"السلطة الثقافية والسلطة السياسية"لعلي أومليل 1996 المسألة الثقافية في مناخ العولمة "العولمة مسارٌ لا رجعة فيه، لكنها تمثل تحدياً للثقافات المحلية والوطنية والقومية. ان عولمة الثقافة هي من اقوى مظاهر العولمة: جماهيرية المنتج الثقافي المتجاوز القيود والحدود، وتنميط هذا المنتج، وتسويقه عبر شبكات تتحكم فيها شركات عابرة للحدود. فهناك ملاّك عددهم محدود للجرائد الكبرى في العالم وقنوات التلفزة الاخبارية الكبرى، والبرمجيات، وشركات الانتاج السينمائي العالمية، أسماؤهم بيل غيتس، وروبرت مردوخ، وتيد نورنر، وكونراد بلاك، وجان لوك لاجارديير، هؤلاء حولوا المنتج الثقافي والإعلامي والترفيهي الى سلعة معولمة منمطة، يتحكمون بشبكات انتاجها وتوزيعها في اتجاه واحد من شمال منتج وموزع الى جنوب مستهلك. حوّلت العولمة الثقافة الى بضاعة منمطة تستهدف اعداداً هائلة من مستهلكين على مستوى العالم، وهي منمطة لضرورة الانتاج الجماهيري الواسع، وهي تقدم على انها ثقافة عالمية لا وطن خاصاً بها على رغم طابعها الغربي او المتغرب. الا انها تخلق رد فعل مزدوجاً او متناقضاً: فهي من جهة تستهلك على مستوى العالم بمختلف اقوامه، لكنها من جهة ثانية تدفع الى الارتداد الى الثقافات المحلية التي هي الوجه العكسي للعولمة. ورغم ان رد الفعل هذا مشروع لأنه يدافع عن الخصوصيات الثقافية، الا انه لن يغير من واقع الأمر شيئاً، لأن امام أي ثقافة غير غربية مصيرين: إما ان تتحول الى ثقافة محلية، تخص قومها، والذين حتى لو اعتدوا بها فإن هذا الاعتداد لا يجنبها الانعزال والمحلية، وإما ان تكسب رهان التحديث، فتسلك طريقها الخاص الى الحداثة التي تعني ان تكتسب قيمة تبادلية في سوق الثقافات المتقدمة في عالم اليوم. ان حوار الثقافات ليس مجرد مناظرة بين ثقافات في الأفكار والقيم والعقائد، بل هو تفاعل بينها. وهذا لا يتأتى لثقافتنا الا اذا كانت قادرة على حوار الآخر كثقافة تفرض حضورها وجدواها بالنسبة اليه.، ولا يكون ذلك ممكناً لمجرد اقتناعنا بعراقة ثقافتنا، بل لا بد أن تسندها قوة اقتصادية وسياسية تعطي للثقافة قوتها وقيمتها التبادلية في سوق الثقافات المتقدمة، ثم ان تحديث ثقافتنا يقتضي وجود قاعدة اجتماعية واسعة مندمجة في الحداثة. اما اذا ظلت هذه القاعدة خارجها فإن الذي يحصل هو الارتداد الواسع الى ثقافة محافظة، وإحياء مظاهرها الدينية المتشددة، تصوغ منها هوية منغلقة اقصائية، لا ترى في الحداثة سوى اعتداء على هويتها، فلا تسعى الى مد الجسور مع ثقافات الغير. ان مفهوم الثقافة وطبيعتها تغيرا، وإن ما تربى عليه من سلوك وقيم يتوقف عليه مدى نجاح او فشل الاندماج في عالم اليوم والمنافسة فيه. والثقافة لم تعد ذلك الشيء الكمالي الذي نفرغ اليه بعد ان ننتهي من اعمالنا ومهامنا اليومية، بل الثقافة اليوم هي المحدد للسياسات: مبادئ السياسة الاقتصادية، اهداف التربية والتعليم، اسس التوافق على قواعد العمل السياسي والمبادئ التي تقوم عليها المؤسسات السياسية، دور الدولة في عالم اقتصاد السوق والمنافسة، والتأصيل الثقافي للديموقراطية. ثم ما هو جوابنا على التحدي الذي اصبح يلوّح به الليبراليون الجدد وهم يربطون الحداثة الاقتصادية والحداثة الديموقراطية الليبرالية ربطاً حصرياً بالقيم الثقافة الغربية؟ عاد هؤلاء الى المذهب النفعي ليفسروا به الدافع العميق للسلوك الانساني: وهو ان السلوك الأساسي للانسان هو طلب منفعته بمعناها المادي المباشر، لذلك يقيّمون الانسان بنجاحه في الاعمال والنشاطات الجالبة للثروة وما تبعثه في النفس من رضا بالنجاح وما تتيحه من تمتع. فهل كل غاية الانسان من وجوده هي هذه؟ وهل النجاح في الأعمال والمهن هو وحده الذي يعطي المعنى للحياة؟ هذه الاسئلة الفلسفية ليست هي التي تعنينا هنا، بل الذي يعنينا هو سؤال الثقافة كمحدد لمبادئ السياسات واختياراتها الكبرى في كل المجالات". من كتاب "سؤال الثقافة" لعلي أومليل 2005