أعيد عرض فيلم"حليم"ضمن نشاطات المهرجان القومي الأخير للسينما المصرية، وأثار العرض في الذهن من القضايا الإشكالية ما يستحق النظر حول الأفلام التي تستمد مادتها من حياة إحدى الشخصيات المشهورة. أشاهد فيلم"حليم"وفي رأسي يدور النقد اللاذع الذي كتبه بعض النقاد عن الفيلم متهماً المنتج بأنه استغل أحمد زكي حتى آخر نفس في حياته. كان أحمد زكي يلفظ أنفاسه الأخيرة وهو يقوم بالدور، لكن أحمد عاشق التمثيل كان يعلن من قبل أنه يتمنى أن يأتيه الموت وهو أمام الكاميرا وهذا ما حدث. لماذا نتوجه الى الظن بشبهة الاستغلال ولا نتوجه الى تقدير حسن نيات المنتج عماد أديب - غود نيوز بتحقيق أمنية صديقه الممثل أحمد زكي؟ هل كان من المهم أن يؤدي أحمد زكي الدور وهو يعاني من المرض نفسه الذي كان يعانيه حليم؟ أحمد زكي ممثل قدير، وكان يمكن له أن يؤدي الدور من دون المرور بالمعاناة نفسها، ولكن ألم تُضِفْ معاناته الحقيقية من المرض صدقية على الأداء؟ من المآخذ التي وجهت الى الفيلم أيضاً عدم الدقة في تسلسل ظهور إحدى الأغاني أو المناسبة التي قيلت فيها، وأذكر أن المخرج شريف عرفة انبرى للدفاع عن توثيقية الأحداث والأغاني. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل نحن أمام درس في التاريخ أم أمام نص فني لم يكن أبداً مصدراً لتوثيق وتأريخ الأحداث؟ لا يضير العمل الفني الخطأ التاريخي بقدر ما يضيره الخطأ الفني، كما يقول أرسطو أول منظري الدراما، فالمهم هو الحفاظ على السرد الفني. الفيلم والواقع وإذا كان حليم في مشهد من الفيلم صدم برفض الجمهور لأغنية له في أول حياته، أليس المهم المسألة نفسها وتأثيرها النفسي عليه، بغض النظر عن الأغنية المرفوضة إن كانت هذه الأغنية أو غيرها؟ رجاءً، العودة الى درس أرسطو في الدراما. من الإشكاليات التي واجهت بعض النقاد والجمهور أيضاً وتسببت أحياناً في إفساد تذوق الفيلم، والخلط بين الفيلم والواقع، أي بين ما يجرى على الشاشة وما هو معروف لدى المشاهد عن واقع الشخصية. من يقع في هذا الفخ يظل طوال مشاهدته يسأل نفسه، هل أحمد زكي يمثل آلام المرض أم انه يتألم حقيقة؟ مما يربك المشاهد في التأرجح بين الإحساس بمعاناة أحمد زكي ومعاناة الشخصية التي يمثلها. أما مظهر الخلط الثاني بين الفيلم الخيال والواقع فيتمثل في المقارنة الخاطئة بين ما نراه على الشاشة من تصرفات حليم وحركاته وبين ما نعرفه عنه في الواقع. غالباً ما تتسع أو تضيق نقاط المطابقة ما يفسد تذوق الفيلم. والمفروض أن يقبل المتفرج على مشاهدة الفيلم باعتباره عملاً خيالياً مستقلاً يوازي الواقع ولا ينسخ عنه، لذلك فالمتفرج الذي لا يعرف حليم أو الذي يفصل بين ما يعرفه عن حليم وما يراه على الشاشة يكون أكثر موضوعية في تقبل الفيلم. أما الإشكالية الأساسية التي يثيرها الفيلم فهي المعالجة السينمائية نفسها التي حاول كاتبها محفوظ عبدالرحمن أن يقول فيها كل شيء عن عبدالحليم حافظ: التكوين والنشأة البائسة، صدمة الإخفاق والإصرار على النجاح في البداية، صراعاته ومصادماته مع الآخرين أم كلثوم مثلاً، صعوده مع صعود طموحات الأمة وتعبيره عن المشاعر الوطنية في مرحلة النشوة والاعتزاز بالكرامة ومرحلة الانكسار، ولا ننسى طبعاً علاقاته العاطفية. إن كل فقرة أو مرحلة من هذه المراحل تصلح وحدها أن تكون فيلماً، وسبق أن قدم الكاتب نفسه معالجة فذة عن مرحلة محددة في حياة عبدالناصر في فيلم"ناصر 56". لقد أدى تزاحم أحداث فيلم"حليم"الى إجهاض بعض الحوادث والمرور على البعض منها من دون إشباع. فيأتي على شكل إخباري أو يكاد علاقته مع سعاد حسني مثلاً وهو ما يفقد العمل تأثيره الفني وإن حقق ذلك في بعض أجزائه، كما في الجزء الخاص عن علاقة حليم بالمد الثوروي وأغانيه الوطنية المتفائلة المفعمة بالثقة ثم صدمة النكسة ومحاولته التماسك بعدها وتقديم أغاني المقاومة. فقد وفق الفيلم في التعبير عن هذه المرحلة وجعلها ذروة مؤثرة. مع تزاحم الحوادث افتقد الفيلم المعالجة الخيط الدرامي الذي يبرر الجمع بينها اللهم إلا إذا كان الهدف هو مجرد سرد أكبر مجموعة من الأحداث التي تتعلق بشخصية حليم. ويرضي ذلك محبي عبدالحليم الذين يتشوقون الى معرفة أخباره التي لا يعرفونها أو يجترون أخباره التي يعرفونها ويجدون في ذلك سلوى. ولكنه لا يرضي غيرهم من الذين لا يبحثون عن السلوى ويرغبون في رؤية عمل فني متماسك تؤدي به وحدته الى معنى ما يجمعها. لكنها جاءت كفقرات متوالية لا يربطها غير أنها تتعلق بحياة حليم. ومن الاشكاليات أيضاً تراوح الفيلم بين أسلوب المعالجة التسجيلية وأسلوب المعالجة الروائية. فالفيلم كله يعرض من خلال مقابلة يجريها أحد رجال الإعلام مع حليم وهو على فراش المرض. وليس في ذلك ما يؤخذ على الفيلم وهناك أفلام روائية كثيرة فعلت ذلك. ولكن من دون أن يبدو استخدام هذا المزج بين التسجيلي والروائي مقحماً أو عامل تعويق لتدفق السرد الدرامي. غير أن استخدام هذه الحيلة أسلوب المقابلة التسجيلية في حليم جعل عرض حياة حليم يأتي على مراحل منفصلة ما يفقد التسلسل الدرامي تدفقه. ولعل السبب هو محاولة استثمار أحمد زكي بظهوره أكثر من مرة حيث ينقلنا الفيلم في كل مرة الى جانب آخر من حياة حليم. ويبدو واضحاً أن المعالجة كانت تسعى الى الجمع بين تحقيق هدفين تجاريين أهمهما تقديم أحمد زكي بأطول زمن ممكن على حساب تماسك بناء العمل الفني وسلاسته. ومع ذلك لا أنكر انني تمتعت ببعض أقسامه خصوصاً عرضه لمرحلة ما قبل نكسة 1967 وما بعدها، وهي المرحلة التي ما زالت منجماً ينظر من يغترف منه لتقديم أعمال فنية مؤثرة.