عندما أُعلن عن استكمال تصوير فيلم"حليم"بالمشاهد القليلة التي صورها احمد زكي قبل رحيله، لم نكن متفائلين فقد توقعنا ان يعاني الفيلم ارتباكاً ما حتى ولو كان مخرجه شريف عرفة، وقد كان. فبداية، ومع كل الأسف، لم يكن أحمد زكي بالطبع في حال التوهج التي عرف بها عند تقمصه لأي شخصية درامية في العموم وشخصيات السير الذاتية على وجه خاص. تباين واضح انتاب أسلوب أدائه لتلك المشاهد القليلة بسبب حاله الصحية المتغيرة صعوداً وهبوطاً خصوصاً ان تصويره لبعض المشاهد كان زمنياً قريباً جداً من التدهور الأخير في حالته الصحية، وهذا ما وعاه صانعو الفيلم فاهتدى تفكيرهم الى ان يبدأ النجم الكبير بتصوير المشاهد الأخيرة لمرض عبدالحليم حافظ أولاً لأنها المشاهد الأخيرة نفسها لمرض أحمد زكي وثانياً من أجل اللحاق بكل ما يمكن أن يصوره أحمد زكي في هذه الحال وقبل الرحيل. لكن هذا التوجه أوجد شعوراً مزدوجاً لدى المشاهدين: تقديراً كبيراً لأحمد زكي لعشقه التمثيل والتقمص حتى آخر رمق، وشفقة وتحسراً، وربما أيضاً سخطاً، على ظهوره بهذه الحالة الصعبة على الشاشة خصوصًا انها ستمثل لديهم الانطباع الأخير عن عملاق أحبوه وها هو يتساقط أمامهم. ومن هذا المنطلق لم يكن المُشاهد يبحث عن عبدالحليم في مشاهد الفيلم المتتالية بقدر ما كان يبحث عن أحمد زكي، مترقباً ظهوره في كل مشهد جديد ليقتحم تلك الحالة الخاصة لمرضه، إشفاقاً كان أم فضولاً، مراقباً في محاولاته للتماسك والتحدي، وطبقات صوته غير المستقرة التي تخفت وتوهن بين الحين والآخر، ونظرات عينيه الحائرة بين التشبث بالحياة وانتظار شبح الموت. ومن هنا كانت صورة احمد زكي في الفيلم تستدر تعاطف المشاهدين تجاه أحمد زكي اكثر من تعاطفهم مع حليم واكثر طبعاً من إعجابهم بتجسيده شخصية حليم. على المنوال نفسه، ومن دون مبالغة، كان المشاهد ينظر الى هذا القادم الجديد هيثم احمد زكي الذي أدى عبدالحليم في مراحل شبابه بالعين ذاتها المتعاطفة مع شاب فقد أباه حديثاً وأمه من قبله، وليس مع حليم اليتيم. وهكذا ظلم الفيلم احمد زكي كما ظلم حليم الذي جاء سرد الفيلم لقصة حياته أشبه بحال من الاستجابة لأسئلة المشاهدين، بالذات الشباب منهم، عن واقع ومواقف في حياة عبدالحليم كانت ملتبسة لديهم أو غير مؤكدة فقام الفيلم بإيضاحها مثل علاقته بسعاد حسني ثم بجيهان المرأة الوحيدة التي احبها في حياته، وعدم قدرته على الزواج نتيجة لحالته الصحية أو خلافه مع ام كلثوم وعلاقته بالثورة ورجالها. جاء سرد قصة حليم في صورة أقرب الى معلومات بُثت واحدة وراء الأخرى عبر خط / مستوى بانورامي افقي استاتيكي بارد مفتقراً لرؤية خاصة او مفهوم محدد ومدروس لتناول السيرة الذاتية لعملاق آخر. سيبيا لا ندري لماذا كان اللجوء الى تقنية الپ"سيبيا"التي تجعل مشاهد ملونة قريبة من الأبيض والأسود فيما كانت الأزمنة بالفيلم مغلوطة الى حد ما، ولا ندري كيف يقدم مخرج مثل شريف عرفة مشهداً سخيفاً وقديماً قِدم أزل السينما ذلك الذي ينادي فيه أحد أصحاب المحلات في الشارع الذي كان يسكن فيه حليم أيام البدايات والفقر ليخبره ان الموسيقار محمد عبدالوهاب اتصل به في تليفون المحل الخاص به وهو في حال بلهاء من السعادة والفخر، يكاد يتطابق هذا المشهد مع مشهد المعلم محمد رضا في حارة فيلم"معبودة الجماهير". في المقابل كان المشهد الختامي لرحيل حليم الذي كان ينظر فيه عبر نافذة غرفته في المستشفى الى الطفل الذي كان هو عندما كان صغيراً كان مشهداً مؤثراً ونفذ بحساسية عالية فنياً ووجدانياً على رغم تأثره بالمشهد الختامي لنور الشريف في فيلم"حدوتة مصرية"الذي كان متأثراً بدوره بالفيلم الأميركي"كل هذا الجاز". على رغم كل هنات الفيلم، وهي هنات تعزف منفردة، صور عرفة مشاهد فيها الجماليات المنشودة للصورة السينمائية من تكوينات ودلالات خاصة وتناسق في الألوان وحركة كاميرا ملائمة منها ذلك المشهد الذي يأوى فيه الشاب عبدالحليم الى فراشه بعدما يعرف بحقيقة مرضه لأول مرة، ومنها مشاهده على شاطئ البحر مع حبيبته جيهان التي جسدتها السورية سلاف فواخرجي في أداء رفيع وأشرقت فيها بطلتها الجميلة ووجهها الهادئ ذي الملامح الارستقراطية التي تناسبت ودورها في الفيلم. والحقيقة ان اختيار الممثلين وپ"تسكينهم"في شخصيات الفيلم كان من أفضل عناصره، لا ينطبق هذا على الممثلين الرئيسين فقط انما على شخصياته الثانوية أيضاً التي لم تعتمد فقط على تشابهها الخارجي مع الشخصيات الحقيقية التي عاصرت عبدالحليم بل أفادتها توجيهات عرفة التي منحتها الروح القريبة من هذه الشخصيات التي جسدتها وكانت أبرزها شخصيتا عبدالرحمن الأبنودي وصلاح جاهين. اما هيثم احمد زكي فقد نجح في محاكاة الملامح الخارجية لعبدالحليم في طريقة حديثه ونظرات عينيه وحركات يديه وشفتيه عند الغناء والتحدث، والفضل يعود هنا ايضاً الى توجيهات شريف عرفة. ولا شك أبداً بعد هذا في صدق رغبة المنتج عماد الدين أديب في إنجاز الفيلم تحقيقاً لحلم احمد زكي ووفاءً لصداقته ولذكراه، ولكن نقول فقط ان نتيجة هذه الرغبة جاءت الى حد ما سلبية وعلى عكس ما كان مرجواً منها. لم تأت على أي حال لمصلحة أحمد زكي وتاريخه الفني.