القارئ العربي المتتبع لما تعج به الساحة الجزائرية من إنتاجات أدبية وقراءات وتحليلات للنصوص الإبداعية في مختلف الأجناس من قصة ورواية وشعر، يلتمس أن ثمة حركة أدبية ونقدية تواكب ما ينتج وينشر، بل ويلاحظ أن جيل المعربين وحتى "الفرنكوفونيين" الجدد من الأدباء الذين خرجوا من عباءات سابقيهم -محمد ديب، كاتب ياسين، ورشيد بوجدرة وغيرهم- يتميزون في نصوصهم، سواء تلك الصادرة بالفرنسية أو حتى بالعربية، بتجاوز الخط السردي الذي كانت تتمتع به النصوص الروائية لجيل الأدباء القدامى. هذه النصوص تنقل القارئ عبر فسحة مكانية وزمانية بشكل سريع ومفرط يلغي من خلاله الحدث المحرك للنص الروائي وإسقاط البطل الرئيسي ويفتح المجال أمام التوظيف المتعدد للأبطال مع ترك "الفرجة" النصية مفتوحة على نهايات غير معروفة وعدم اللجوء في أحيان متميزة إلى السرد المباشر واستفزاز القارئ بأسئلة تترك نهايتها مفتوحة على كل الإجابات والتأويلات. فحال الأدب، سواء بالنسبة للمعربين أو الفرنكوفونيين، في الجزائر هو من حال جيل من الأدباء حمل الرواية والشعر والقصة على محمل ما أفرزه الواقع في التجربتين مع اتساع الفجوة بين الأدب المعرب والأدب "المفرنس" عند الأدباء القدامى كنتيجة لجعل اللغة الفرنسية لغة "مستعمر" لا غنيمة استعمار، على رأي الأديب الجزائري كاتب ياسين. بينما لا نجد تلك الفجوة تتسع مع الأدباء الجدد ولا يظهر اختلاف كبير بين الرواية المفرنسة والرواية المعربة في النصوص المتناولة. بل نجد أن الاختلاف البسيط بينهما يكمن في كون الرواية الفرنسية تناولت نصوصا أكثر جرأة مست مواضيع لم تتمكن الرواية المعربة من اقتحام أسوارها. فالكاتب المفرنس وبحكم ميوله الفرنكوفوني لم يتقيد ببعض النصوص التي رأى فيها الروائي المعرب "محرم" الخوض، كالسياسة مثلا، حيث تمكن الكاتب المفرنس من الخوض في السياسة بأسلوب إبداعي سياسي ونقدي. لكن حركة الأدب رغم تطور نصوصها مع الجيل الجديد، إلا أنه لم يتمكن النقاد من تصنيفها ووضعها في رواق معين، خاصة تلك التي كسرت طوق الرواية الحديثة وتجاوزتها، مثل نصوص بشير مفتي "أشجار القيامة" وأحلام مستغانمي "الأسود يليق بك"، سواء على مستوى الموضوع أم على مستوى تقنيات الكتابة ومن هنا يجد الناقد نفسه أمام إشكالية تصنيف هذه الكتابة الشبابية الجديدة. جعفر يايوش، المختص في الحركة الأدبية والنقدية يؤكد في أحد كتبه أن حال النقد في الجزائر من حال الأدب والثقافة ونظام التعليم. ويعتبر أنه من الطموح الزائد أو من التعسف أن نحكم على الجهود الأدبية والنقدية بغير ما أفرزه الواقع العام في هذه التجربة، سواء بالنسبة للأدب المعرب أو الأدب الفرنكوفوني. ومن المآخذ التي يؤكد عليها جعفر يايوش أن لغاية مرحلة معينة لم يظهر في العالم العربي، والجزائر من هذا العالم، نخبة متميزة في البحث الفلسفي ولا في الترجمة ولا في مجالات متخصصة، ناهيك عما يشوب تدريس الأدب من رداءة في كل الأطوار التعليمية. ومن هنا لا يمكن - والحال هذه - إلا أن نقتنع أو نفهم بأن النقد ليس سوى أحد تجليات المشهد العام المتأزم للأدب، وأن الأزمة ليست بالضرورة أزمة تدهور كما يتبادر إلى الأذهان عادة، بل قد تكون أزمة تطور أيضا. فمثلا الروائيون الجزائريون الذين يكتبون بالفرنسية أو بالعربية أمثال محمد مقني في رواية "الحرب تحتضر" مايسة باي في رواية 'احذر أن تلتفت وراءك' أو كمال داود في رواية "آه يا فرعون" أو مصطفى بن فوضيل في رواية 'ثرثرة الوحيد' أو في 'أركيولوجيا خراب العشق' أو بشير مفتي في رواية "أشجار القيامة" وياسمينة صالح في رواية "لخضر". يتضح جليا أن هؤلاء اختاروا أدبا جديدا يخرج عن عباءة الأدب الفرنسي الذي أسس له كاتب ياسين ومحمد ديب ورشيد بوجدرة. فالنصوص الأدبية الجديدة لهذا الجيل الجديد من الأدباء اتسمت بنصوص مفتوحة على محاكاة للواقع، لكن خرجت عن تقنية كتابة النص ولم تلتزم بقواعد الكتابة. فمثلا هناك نصوص ظهرت بالعامية وأخذت حيزا متميزا وحصدت جوائز أدبية، كمصطفى بن فوضيل الذي انتهج فكرة جديدة تمخضت من واقع معاش بلغة عامية تخطت الحدود الروائية الكلاسيكية المعروفة، فهو روائي استطاع أن يكرس فكرة كاتب ياسين التي كانت تراوده وخشي أن يقتحمها لاعتبارات زمانية ومكانية. كما استطاع أن يخرج للعالمية من خلال السرد الذي اعتمده بلغة عامية قد لا يفهمها كل قرائه لكن بن فوضيل نال الكثير من الإعجاب عن نصوصه ونال الجوائز الأدبية عنها. ففي العام 2001 عرضت أعماله الأدبية في المؤسسة الألمانية "ميداد" وذكرت المؤسسة التي ترعى النصوص المتميزة أن مصطفى بن فوضيل ولج العالم الروائي من بابه الواسع، بفضل قدرته على سرد نصوصه بلغة عامية يفهمها كل قارئ. مصطفى بن فوضيل صنع إبداعا روائيا يتجلى في الاستعانة في نصوصه بأبطال من الفئات الشعبية البسيطة في محاكاة لواقع صعب. فمثل مصطفى بن فوضيل، ومايسة باي وأحلام مستغانمي، وبشير مفتي وياسمينة صالح، خرجوا من عباءة أدب رشيد بوجدرة وقدموا نصوصا لا تأبه بتقديم بنية سردية محصورة في حدود معينة، لكن أبطالها يتحركون ضمن فضاء مكاني معين. وعكس هؤلاء، احتفظ أدباء آخرون بعباءة أدب بوجدرة، واستطاعوا الخروج عن طاعة "فرنسا" بتوجيه شخصيات روايتهم إلى أماكن بعيدة عن فرنسا هروبا من لظى الأصولية والتطرف. فحبيب أيوب في "الحارس" أخذ من الصحراء حيزا مكانيا لروايته بتوصيف فريد في خضم ذلك الحيز المكاني لعلاقة الحاكم بالمحكوم وكيف صارت قاب قوسين أو أدنى. مايسة باي.. نموذج الرواية الفرنسية المتلاعبة بالزمن مايسة باي من الأديبات الجزائريات اللواتي صنعن الاستثناء على غرار آسيا جبار ووسيلة تمزالي في الأدب المفرنس. فرغم كونها حديثة الظهور إلا أن الروائية استطاعت تكوين عالم روائي خاص بها، حيث انطلقت في البداية برواية و'هل تسمعون صوت الأحرار؟' الذي يعالج قصة والدها الذي اختطفه الجنود الفرنسيون، ولم يعرف عنه أي شيء منذ اختطافه، ثم رواية "لأن قلبي مات"، والتي تناولت قصة 'عايدة'، وهي امرأة جزائرية مطلقة، في 48 من العمر، فقدت ابنها الذي تم اغتياله، ولم تجد غير التمسك بالعقل بعد أن شعرت بأن قلبها مات بموت ابنها. وصدر لها 'أزرق، أبيض، أخضر' وكتبت مايسة أيضا رواية 'حجر، دم، ورق أو رماد'، ثم نشرت رواية أخرى بعنوان 'تلك الفتاة'.