تذكّر زيارة رئيسة مجلس النواب الاميركي نانسي بيلوسي الى دمشق بالمشهد السياسي على الساحة العراقية قبيل سقوط بغداد على يد القوات الاميركية الغازية. في تلك الفترة اصيب السياسيون الاميركيون بحمى التقاط الصور مع صدام حسين، والحديث عن الحوار والسلام ورفض الحرب. بعضهم جاء من اجل ان يضيف الى البوم صوره لقطة نادرة مع رئيس نظام يعيش ايامه الاخيرة، وآخر استغل المناسبة لتحسين وضعه على الساحة الاميركية، وهدف نانسي من زيارة دمشق لا يختلف كثيراً عن اهداف زوار العراق قبيل الغزو، فسورية ساحة لمواجهة سياسية ساخنة، وعسكرية محتملة مع واشنطن، وحزبها يستعد لخوض معركة الرئاسة، وزيارتها، في احسن الاحوال، فرصة لتلميع وجه الديموقراطيين امام عائلات الجنود الاميركيين وكسب ود الشارع الاميركي الذي بدأ يرفع صوته ضد المغامرات الاميركية في المنطقة، فضلاً عن ان هذه السيدة الانيقة كاثوليكية محافظة، وصوتت لصالح موازنة الحرب على العراق، رغم معارضتها السابقة لها، ناهيك عن انها تؤمن ان ممارسة السياسة مثل لعبة التنس، يمكن ان ينتقل فيها السياسي من اليمن الى اليسار والعكس، وتحركها في النهاية لن يخرج عن توقع الرئيس بوش عندما سئل عن توقعه لطريقة تعامل نانسي مع حزبه بعد فوز الديموقراطيين فأجاب:"عاصرت السياسة طويلاً واستطيع ان اتفهم ما يقال عندما تبدأ الحملات الانتخابية وما يقال عندما تنتهي"! دمشق تدرك ان نانسي ليست صانعة قرار في السياسة الاميركية وان زيارتها مجرد مخدر موقت لأزمة حقيقية بين البيت الأبيض ونظام دمشق، وجزء من حملة العلاقات العامة التي تشنها الولاياتالمتحدة على المنطقة منذ غزو العراق، لكنها تريد كسب مزيد من الوقت، ولا مانع لديها من تناول المخدر الاميركي اذا كان سيمنحها هذه الفرصة، أملاً في تغير الظروف الراهنة، وتحول الضغوط الاميركية الى مسارات يمكن النفاذ من خلالها، بيد انها تتجاهل ان الوقت ليس في مصلحتها من دون مساهمة حقيقية في تغيير مسار الأزمة، وتنسى ان صفة"الدولة المحورية"التي تستند اليها دمشق في تعاطيها مع ما يجري في المنطقة، تغيرت بعد تخليها عن اوراق الآخرين، فخروج القرار الفلسطيني من عباءتها، وانسحابها من لبنان، وضعاها في موقع سياسي وتفاوضي جديد يحتاج الى رؤية سياسية بحجمه، فصارت دمشق في نظر واشنطن وبعض العرب في موقع المتهم، بعد ان كانت تلعب دوراً اقليمياً على الساحتين الفلسطينية واللبنانية. صحيح ان بعض هذه التهم التي تسوقها الادارة الاميركية يفتقر الى الدليل مثل تهريب السلاح الى لبنان، وتسهيل دخول المقاتلين الى العراق، ودعم الارهاب، لكن موقفها من المحكمة الدولية وتدخلها في الشؤون الداخلية للبنان، تهم حقيقية لا يفيد سورية التعامل معها باعتبارها افتراءات اميركية، فضلاً عن ان موقف واشنطن ودول المجموعة الاوروبية من قضايا المحكمة والتدخل في لبنان والتحالف مع طهران ينسجم مع الموقف العربي، ولهذا فإن الوقت الذي تسعى دمشق الى كسبه لن يفضي الى انفراج في صالحها، وحتى ان ادى الى انفراج محدود من الزاوية الاميركية، فالموقف العربي سيبقى رافضاً للنهج السوري في التعامل مع لبنان والعلاقة مع طهران، ولا بد من تغير جدي في السياسة السورية تجاه موضوع المحكمة والوضع في لبنان، فهذا التحرك من شأنه ان يكسب دمشق دعماً عربياً في مواجهة الضغوط الاميركية، ويمكن سورية من استعادة صفة الدولة المحورية التي جرى التفريط بها بعد غياب الرئيس حافظ الاسد. اللافت في التصريحات والآراء التي نقلت عن صحافيين سوريين خلال زيارة نانسي بيلوسي الى دمشق ان سورية بإمكانها تقديم الكثير لإصلاح الورطة الاميركية في العراق، لكن لا احد يشير الى ما يمكن ان تقدمه سورية لنفسها للخروج من ورطتها في لبنان نتيجة تعطيل المحكمة الدولية، وتسويغ استمرار الاحتلال الاسرائيلي لمزارع شبعا من خلال افتعال ازمة حول ملكيتها، ولا احد في سورية يشرح لنا التناقض الحاصل في الخطاب السوري حول قضية التدخل الاجنبي في القضايا العربية. فمن جهة ترفض سورية التدخل الاميركي في العراق، وهو موقف لا خلاف معها حوله، ففي قمة الرياض كان واضحاً ان زمن الصمت على ما تفعله واشنطن في العراق انتهى، وان الموقف العربي من الازمة العراقية اصبح يستند الى ان ما يجري هو بسبب الاحتلال، وان تحسن الوضع على الساحة العراقية رهن بزواله. لكن غير المفهوم هو صمت دمشق عن التدخل الايراني في الشؤون العربية، والوقوف على الحياد من نزوع ايران الى امتلاك قدرات نووية، والهيمنة على العراق والمنطقة. هذا التناقض عزل سورية عربياً، وافقدها الدور الذي كانت تلعبه قبل اغتيال الحريري. الأكيد ان سورية ليست ضعيفة الى هذا الحد، فهي وان فقدت الورقتين الفلسطينية واللبنانية، لا تزال تحتفظ بورقتين مهمتين هما تأمين وضبط الحدود مع اسرائيل على مدى ثلاثة عقود، والتحالف الاستراتيجي مع ايران. لكن الورقتين الاسرائيلية والايرانية لن تكونا ذات قيمة اذا تصاعد التوتر بين طهرانوواشنطن، وتغيرت الظروف السياسية في لبنان، ولذلك فإن رهان سورية على استمرار التوتر على الساحة اللبنانية من اجل استمرار منافعها من"الحدود الآمنة"مع اسرائيل، وتسويغ علاقاتها مع ايران على حساب المصالح العربية العليا هو رهان محكوم عليه بالفشل، فسورية اسست دورها في الماضي على امتلاك حق اللعب بأوراق الأخرين، وهي اليوم تتمسك بالمبدأ ذاته من دون ان تدرك ان شروط اللعبة قد تغيرت، وان صفة"المحورية"ستبقى مجرد صفة من الماضي طلما استمرت السياسة السورية تتجاهل الحكمة القائلة"ان كبر ابنك خاويه"، ولبنان شب عن الطوق، ومصلحة سورية تبدأ من القناعة بهذه الحقيقة.