يأتي كتاب سليم تماري الجديد "الجبل ضد البحر - دراسات في إشكاليات الحداثة"، عن مؤسسة مواطن في رام الله، ليقدم واحدة من أهم دراسات علم الإجتماع الحضري في منطقتنا، على ندرتها. فالكتاب يغوص بطريقة رائعة في الجانب النظري، وفي الدراسات العيانية للحالة المنبثقة من مذكرات بعض الشخصيات التاريخية الفلسطينية الذين عاشوا في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. وخلافا للطريقة التي عالج بها بعض الباحثين والمفكرين العرب موضوع الحداثة بشكل مجرد ومنمط، الأمر الذي أوقعهم في شرك التعميمات التي تأخذ المجتمع العربي أو الفلسطيني كوحدة دراسية، فإن تماري قام بتحليل الصورة المعقدة والملونة وغير الخطية لدخول الحداثة إلى مجتمعاتنا، موضحاً تفاوت الصورة بين العواصم المتروبولية والمدينة المريفة والريف الممدن، والجبل والبحر. ويتميز مفهوم الحداثة لدى تماري، كما هي الحال مع ميشيل فوكو، باعتبارها منبثقة من التراث وليست ضده. فشخصيات مثل عمر الصالح شخصية إقطاعية مقدسية، لكنها في الآن نفسه حديثة في معتقداتها الفكرية والدينية، وهي ذات انتماءات مركّبة وقوية، تنطوي على أبعاد عثمانية وعربية. وعلى عكس الكثير من المؤرخين الذين يربطون دخول الحداثة إلى العالم العربي بالوجود الاستعماري الأوروبي، يبيّن تماري أن عمر الصالح البرغوثي 1886-1956 مثلا، كان قومياً وإلى حد ما معولماً. فقد أدى وجود التكنولوجيا ووسائل الاتصالات منذ بداية القرن العشرين في فلسطين، إلى ترسيخ بيئة اجتماعية ذات قاعدة ثقافية علمانية وطبيعة تجارية بمعزل عن ضغوط البيئات الاجتماعية المحافظة. وقبل أن يتناول تماري مدينة القدس بتحليل معمق، يقارب إشكالية الحضر وتميزها بخصوصية غياب الحاضرة المدينية. فمدن الضفة وغزة هي بمجملها صغيرة تختلف كثيراً عن المدن الكبرى. فقد أدى مجتمِعاً تشرذم التشكيلات الاجتماعية التي كانت تتبوأ مواقعها في المدن، وما رافقها من هجرة وغياب البورجوازية الصناعية وضعف القطاع الإنتاجي، إلى تشكل المدن كامتداد للريف، ما خلق ديناميات ضبط وتسلط تشبه ما نجده في كل من الشرق والغرب. لكن ما يميز فلسطين كان طبيعة الرابطة بين الريف والمدينة، ما أنشأ نظاماً معيارياً في المدن يتسم بثقافة فلاحية في سياق حضري، مع استمرار دور العائلة الممتدة في تأمين فرص العمل وتلبية الاحتياجات الاستثمارية للأسرة. فهذه الخصوصية شكلت التربة الخصبة لانتشار التزمت الديني في المدينة ونجاح حماس في تعبئة أبناء الريف والمدينة والمخيمات:"في فلسطين فإنَّ ضياع المراكز المتروبوليتانية خلال الحرب شكل ضياعاً للمدينة والبوتقة المدينية بصفتها إنتاجا ثقافياً وارداً من المدن الكبيرة، وبدلاً من ذلك فإن المدن الصغيرة باتت مسرحاً لتشكيل النظام الأخلاقي للمقاومة السياسية، بالإضافة إلى إعادة صياغة المعايير السلوكية. وبهذا المعنى، فإنَّ النظام القيمي في المدن الصغيرة تحول ليصبح المعيار القيمي للمجتمع بشكل عام". ويرصد الكاتب التحول في الوجدان الحضري في مدينة القدس وذلك من خلال مقارنتها بمدن متروبوليتية أخرى كدمشق وبيروت، فيدرس إشكالية التمايز التاريخي بين ثقافة الساحل وثقافة الجبل. فبينما تميزت ثقافة الجبل عامة بانغلاقها فإن ثقافة الساحل في المشرق العربي ليست تماما نقيض ذلك. فإذا كان البحر تاريخياً رمزاً للانفتاح على العالم الخارجي، فإن ثقافة البحر ما زالت تستحوذ على مشاعر متعارضة من الافتتان والمعاداة، ومن المتعة والخوف من غدره في آن واحد، لدى شرائح واسعة من المجتمع العربي. في الحالة الفلسطينية، وفقاً لتماري، تبدد هذا العداء نتيجة تدمير المجتمع الساحلي وطرد السكان من مدنهم وقراهم وسلخهم عن جذورهم الطبيعية. ونتج عن ذلك بروز نزعة حنين رومنطيقي إلى الساحل في أدبيات المهاجرين، وإعادة تشخيص الطقوس الشعبية كموسم أربعاء أيوب وموسم روبين. أما في بقية المجتمعات الشرق أوسطية، فتداخلت الحداثة والهجرة الداخلية في إحداث تغيير جذري في موقف المجتمع يتلخص في تبني مواقف بورجوازية تحررية باتجاه البحر بوصفه مصدراً للمتعة وانعتاق الجسد من القيود الاجتماعية والتغيير في اللباس الخ.، مما أدى الى تخل تدريجي عن الممارسات الطقسية التراثية. إذاًً، يمكن القول إنَّ ثقافة البحر هي ثقافة وافتتان حيناً ومعاداة أحياناً أخرى. من هنا، لا يمكن أن نضع حدودا قاطعة بين ثقافة الجبل وثقافة البحر، وهذه النتيجة المنطلقة من التحليل الثقافي تتطابق مع تحليل بشارة دوماني للاقتصاد السياسي لجبل نابلس، حيث وجد أن هناك تحالفات وعلاقات وطيدة تشكلت بين فلاحي الجبل والمدينة الساحلية. وهذه التحالفات أقيمت ضد سيطرة إقطاعي مدن الجبل نابلس وجنين على هؤلاء الفلاحين. ويتناول الكاتب السيرة الذاتية لواصف جوهرية 1887 - 1967، وهو موسيقار شعبي نشأ في حارة السعدية من البلدة القديمة. وأشد ما يثير القارئ أجواء التسامح الديني والتعدد الثقافي في مدينة القدس بداية القرن العشرين، والتي من الصعب استشفافها في الأجواء السائدة اليوم لجهة الانعزالية الإثنية والأصولية الدينية. فمثلاً كان هناك يومها، جمعية الهلال الأحمر العثمانية التي ضمت المسلمين والمسيحيين واليهود من دون تفريق. وتبين لنا قصص يوميات واصف الجوهرية صورة الانخراط الايجابي في شؤون الجيرة، حيث لم يشكل الانتماء الديني للناس إلا اعتباراً ثانوياً بالنسبة إلى تراثهم المديني الأوسع. لقد تحدى الجوهري المفهوم المبسط لتركيب الأحياء، القائم على تنظيم العلاقة بين المقدسيين على أساس بيئتهم الدينية والإثنية، فلم يكن هناك تطابق واضح بين الأحياء والديانة. لقد ساد الاختلاطً في السكن وفي المشاركة النشيطة في الأعياد الدينية، وأدى كل ذلك إلى خلق تضامن وحركية يضعف ثبات النظام الطائفي الموروث. وهذا الجو المنعش من التسامح، لا يمكن أن يخفي التناقضات التي كانت موجودة آنذاك بين المشروع الصهيوني الذي تبناه معظم اليهود والمشروع العربي، كذلك كان هناك بعض التناقضات بين المسيحيين والمسلمين. ففكرة التسامح تحمل في طياتها دائماً الألم - ألم التناقضات والتنازلات. فأنت تسامح وتتسامح، لكن ليس دائماً بشكل طوعي. وفي النهاية يمكن القول أن سليم تماري قد كشف لنا عن شخصيات فريدة وممتعة في التاريخ الفلسطيني من الطبيب العالم توفيق كنعان إلى المعلم خليل السكاكيني والموسيقار الشعبي واصف جوهرية مرورا بالشيوعي نجاتي صدقي والإقطاعي اللاجئ الى المدينة عمر الصالح البرغوثي واليهودي العربي اسحق الشامي، كل ذلك أمثلة لغناء حاضر/ماضٍ أريد منه في الكتابات النضالية، القومي منها والإسلامي، أن يكون تبسيطياً. لكن ما يؤسف ان تماري لم يقم كفاية بربط فصول الكتاب بالإشكالية الرائدة المبلورة في الفصلين الأول والثاني من حول الجبل والساحل وإشكالية الحداثة. لكن رغم ذلك فإنَّ هذا الكتاب يشكل واحداً من أهم الدراسات القليلة المعمقة لحضرية المشرق العربي، والذي تجاوز من خلاله المفاهيم التطورية التبسيطية لنشوء المدينة العربية، وفسر حالتنا بين تسامح الماضي وتزمت الحاضر.