تتعدد صور وأوجه الآثار المترتبة على الهجرة والاغتراب بصورة عامة، وهي في مجملها ترتبط بظروف وإشكاليات التكيف مع المجتمع الجديد الذي يجد فيه المهاجر نفسه وما يستدعيه ذلك من معضلات ومشكلات ومعاناة. والهجرة، في مطلق الأحوال، تلقي على المرأة هموما وأعباء كثيرة، تفوق في أحايين كثيرة ما تلقيه على الرجل، حيث إنها تتحمل قدرا أكبر من تبعات التغيرات والتحولات التي تطرأ على حياة العائلة نتيجة الانتقال من مكان إلى آخر، ومن محيط ثقافي واجتماعي إلى محيط مغاير، في كثير من سماته وعاداته وتقاليده وأعرافه، لما ألفته ودرجت عليه. والهجرة ظاهرة قديمة في التاريخ البشري ارتبطت بارتحال الشعوب والأقوام من مكان إلى آخر بقصد الاستقرار والبحث عن حياة أفضل. وفي عصرنا الحالي، فإن العوامل الاقتصادية والسياسية كما هو معروف تشكل الأسباب الرئيسية للهجرة عموما، الأمر الذي يفرض أن تتشكل الموجات الأولى من المهاجرين في معظمها من الرجال. ولكن سرعان ما تتلو ذلك هجرة العنصر النسائي والتي هي في أغلب الحالات هجرة زوجات أو أمهات أو أخوات الرجال من أفراد الجيل الأول من المهاجرين. ومع أن عدد النساء العربيات اللواتي يهاجرن بمفردهن، ولأسباب تتراوح بين الدراسة أو البحث عن فرص عمل أو الفرار من ظروف غير مؤاتية هو في طور الإزدياد بمرور الزمن، فإن عدد الرجال العرب من المبادرين إلى الهجرة ما يزال يشكل أكثرية المهاجرين الجدد من الأقطار العربية. والمرأة العربية تتربى في بلدها الأم في ظل منظومة تراكمية من التقاليد والعادات والأعراف التي تضخ في وعيها ولاوعيها مجموعة من القيم والمبادىء الأخلاقية المستقاة من نسيج الثقافة العربية، وهي في محصلتها النهائية منظومة تؤكد على الهيمنة الذكورية والسلطة الأبوية. ولذا فإن المرأة تجد نفسها، لدى انتقالها إلى بلدان مهجرية، واقعة فريسة الانطواء والعزلة وأقل قدرة من الرجل على التكيف مع الواقع الجديد والاندماج في تفاصيل حياة مجتمع المهجر. ومع وجود حاجز اللغة فإن هذا الشعور المضاعف بالغربة الذي ينتاب المرأة العربية في المهجر يتواشج مع شعور، حاد أحيانا، بانعدام الثقة بالنفس والأمان، مما يفرز محدودية في شبكة العلاقات الاجتماعية والصداقات، والتي تبقى في الأعم الأغلب محصورة في إطار التواصل مع الأسر والجاليات العربية التي تعيش بدورها نمطا مشابها من المشاكل والهموم والشجون، لعل من أبرزها الشعور بالوحدة. ومعظم النساء العربيات في المهجر، وخصوصا بنات الجيل الأول من المهاجرين، هن ربات بيوت، وبالتالي فإنهن لا يساهمن في القوة العاملة في بلدان المهجر بنسبة تتساوق مع نسبتهن من عدد السكان. وينجم ذلك في كثير من الأحيان عن الافتقار إلى التأهيل المهني المناسب للالتحاق بسوق العمل في البلد الجديد أو عدم توفر فرصة عمل كافية. ويمكن أن يشار في هذا السياق إلى ضعف اهتمام الدول المضيفة في أوروبا الغربية عموما بتنمية مؤهلات ومهارات المرأة الوافدة، عربية كانت أم غير عربية، وعدم تخصيص برامج خاصة بتأهيل المرأة لدخول معترك العمل. ولكن عدم التحاق قسم كبير من النساء العربيات في المهجر بسوق العمل يتأتى في معظم الأحيان أيضا من رغبة الأسرة العربية في تفرغ الزوجة لتربية الأولاد وتدبير شؤون المنزل والأسرة. وتضطلع المرأة، كربة بيت، بعبء تنظيم الحياة عموما في داخل الأسرة، وفي علاقاتها مع غيرها من الأسر، وحتى في بعض ترتيبات الوقت بالنسبة لكل فرد من أفراد الأسرة، وما يرافق ذلك من تغير في شكل العلاقات بين أفراد الأسرة بعضهم ببعض، من جهة، وبينهم وبين الآخرين، من جهة أخرى، وكل ذلك وفقا لما هو سائد في بلدان المهجر من أوقات الدوام الرسمي للمؤسسات والأعمال التجارية والمدارس. هذا التغير في الأنماط الزمنية قد يكون أول الغيث في مسار تغيير يطال بعض الموروثات التقليدية التي تجد نفسها عرضة لخطر الانحسار تحت ضغط القيم السائدة في المجتمع الجديد. ويفرض ذلك نوعا من الصراع للتوافق والتوفيق بين ما تحاول الأسرة التمسك به من نمط التربية الموروثة من بلدها الأم والقيم الجديدة. وتلعب المرأة باضطلاعها بمهام ربة البيت دورا مركزيا في التوفيق. ولعل ما يجعل من وقع الحيرة والتمزق العاطفي عند المرأة العربية في المهجر أشد وطأة هو ما قد يطرأ على حياتها العائلة من جفاء عاطفي يلقي بظلاله القاتمة على العلاقات بين أفرادها، وخصوصا بين الأبوين. ويكمن جزء من مسببات هذه المشكلة في واقع أن الأسر المهاجرة تحرص على الإبقاء على بناتها داخل إطار الأعراف التقليدية، وتقييد خيارات الزواج لديهن بحيث تقتصر على مرشحين من نفس الخلفيات الثقافية أو من البلد الأم. وهذا ما ينتج زيجات تفتقر إلى المكون العاطفي الذي يشكل ضمانة لاستمرار روابط المودة تحت سقف الزوجية. ويفاقم من الآثار النفسية لهذه المشكلة قلة وجود أصدقاء للعائلة يمكن الوثوق بهم للتدخل في حل بعض الخلافات الداخلية التي قد تنشب جراء الضغوطات الناجمة عن بعض تعقيدات حياة المهجر. وكثيرا ما يكون الجفاء العاطفي سببا في حدوث حالات طلاق وانفصال وتفكك الأسرة، وما يرافق ذلك من مشاكل تنبع من الاختلافات الثقافية والقانونية بين ما هو موروث من الثقافة الأم وما هو معمول به في البلد الجديد من رؤى ومباديء قانونية وإجراءات تطال مفهوم الولاية داخل الأسرة، سواء على المرأة أو على الأطفال في سن الصغر، حيث تشجع الثقافة الغربية بشكل عام مفهوما متحررا يتناقض في كثير من تفاصيله مع ثقافتنا العربية ويصعب على المهاجر القبول به. وإذا ما كان سؤال الهوية مؤرقا للمهاجرين عموما، فإنه أكثر إثارة للقلق لدى المرأة العربية المهاجرة. فهي أكثر تعرضا لمشاكل التمييز العنصري والديني، وما يصاحب ذلك من سلوكيات عدائية أحيانا، من الرجل. فالمرأة العربية، بحكم تربيتها ومنظومة القيم والتقاليد التي تربت عليها تلعب دورا أساسيا في الأسرة كرمز للاستقرار القيمي وضمانة لانتقال التقاليد الموروثة إلى الأجيال القادمة. وتتضاعف أهمية دورها في الحفاظ على هوية الأسرة في المهجر، حيث تتعاظم مخاطر فقدانها والانسلاخ عن الموروث. فلا يقع على عاتق المرأة عبء مقاومة التأثيرات السلبية للحياة في المجتمع الجديد على الأجيال الناشئة فحسب، وإنما تتولى مهام أساسية في الحفاظ على الهوية عبر تلقين الأطفال لغة الوطن وتقاليده وعاداته وزرع الوازع الديني والأخلاقي في نفوسهم. والمرأة العربية التي تخوض غمار الهجرة وتكافح للتعامل مع ما تنطوي عليه تجربة الغربة من هموم ومشكلات تقف حائرة أمام مفترق يفضي إلى ثلاثة طرق وهي تحاول أن تسبر إمكانيات التأقلم مع واقع الحياة في المجتمع الجديد. فهي إن سلكت الطريق الأول تختار الإنكفاء على نفسها والعيش في ظل الغيتوات الثقافية لعالم المهاجرين، بحيث لا تعرف نفسها إلا من خلال مقولات الموروث الديني أو الثقافي ومنظومة العادات والتقاليد التي جلبتها معها. وهي بهذا تضع نفسها في موضع التناقض الكلي والصارخ مع محيطها الجديد والرفض المطلق للآخر-المختلف الذي تعيش بين ظهرانيه. ومما يؤسف له أن هذا الطريق تسلكه شريحة لا بأس بها من نساء الجيل الأول من المهاجرين، واللواتي تبقى حياتهن في الغرب محاطة بمفاهيم قديمة لا تفتح أبوابا تؤدي إلى معارف وسلوكيات جديدة، الأمر الذي يكرس الانعزالية. وفي المقابل، هناك طريق يسعى إلى تقبل كافة مفردات ثقافة المجتمع الجديد وتشربها وتقمص كل ما تنطوي عليه من قيم وأعراف. وهذا الطريق، والذي ينم أيضا عن رفض للثقافة الأصلية للمهاجر، يسلكه في الأعم الأغلب الرجال من المهاجرين. ولكن هناك نساء كثيرات ممن يخترن أيضا سبيل التماهي مع الثقافة الجديدة وإدارة الظهر لثقافة بلدهن الأم. وهذا يشكل بحد ذاته سلوكا مثيرا للاستغراب من حيث كونه ينم عن انشغال تعسفي بالآخر وثقافته وقيمه. لكن ثمة طريقا وسطيا آخر يسعى إلى التوفيق بين الماضي والحياة في الوطن الأم وبين الواقع المعاش في بلد المهجر من دون أن يطغى أحدهما على الآخر. ورغم أن هذا الطريق ينطوي على نزوع إلى التمثل بالغرب، فإنه ليس نزوعا منفلتا من عقاله بحيث إنه يرى في ثقافة الغرب نقاطا مضيئة وأخرى مظلمة. وهكذا يحل التناقض بين الماضي والحاضر عبر القبول بالإيجابي ورفض السلبي في المجتمع الجديد، مما يحقق التوازن الثقافي والقيمي الذي يؤمن دخول المرأة العربية المهاجرة بفاعلية في دورة الحياة في المجتمع الجديد من دون أن تعيش حالة انفصام في شخصيتها أو انفصال عن ثقافتها الأصلية. * كاتبة ليبية مقيمة في لندن.