تؤدي ظروف كثيرة وأوضاع معقدة الى خروج الإنسان من بيئته ومجتمعه نحو مجتمعات جديدة. ويسعى المهاجر الى إثبات ذاته وتطويرها بعيداً من كنف عائلته وثقافته وعادته. وفي سبيل ارتقاء السلم الاجتماعي والاقتصادي، وسعيا لتحصيل العلم، أو تجنباً للكوارث الطبيعية واهوال حروب الاعداء او الاخوة، يعانى الفرد - كما الجماعات المهاجرة - من صعوبات عدة ومتنوعة في المجتمعات المهاجر إليها. إذ ان هذه المجتمعات ليست دائماً الكنف الذي يحضن تجربة المهاجرين. بل على العكس تماما، فغالبا ما كانت هذه المجتمعات تتميز بعنصرية صارخة لا تقبل الاستقطاب او الاختلاط بطبيعة الحال، ولا تستوعب "الآخر" المختلف لغوياً وثقافياً عنها. ولا تزال مآسي المهاجرين وجثثهم أمثلة حية على ضفاف المتوسط والاطلسي، تشهد على العذابات والآلام التي قاسوها. لا تقتصر المشكلة على المجتمعات المهاجر اليها، بل ساهم المهاجرون ايضا في اتساع الهوة، مصطحبين معهم عادات وتقاليد وموروثات ثقافية ودينية غالبا ما ساهمت في تكوين احكام مسبقة ومؤطرة، اعاقت التناغم المنشود والتفاعل بين المهاجرين وبلد المهجر. الا ان الهجرة اسهمت في كثير من الاحيان، في تقريب الحضارات وتقليص المسافات، وما قصص اندماج المهاجرين القدامى والمعاصرين ونجاحاتهم الا دليل حي على حيوية الهجرة. وللمهاجرين العرب حصة كبيرة على متن السفن والطائرات المتوجهة يوميا الى مدن الضباب ومدن الشمس، واضعين نصب أعينهم مستقبلاً افضل، تاركين وراءهم اوطاناً ضاقت مساحاتها بنفحة حرية وكسرة خبز استحال الجمع بينهما، فكان الخيار الأصعب. تشكل الاموال التي يرسلها المهاجرون الى اوطانهم جزءاً متزايد الاهمية من مصادر التمويل الخارجي لبلدانهم. وتمثل التحويلات ثاني أكبر مصدر للعملة الصعبة بعد الاستثمارات الخاصة الاجنبية في الدول النامية. ففي عام 2001، بلغ مجموع تحويلات المغتربين في العالم لبلدانهم الاصلية في الدول النامية نحو70 مليار دولار اميركي. وعلى رغم قلة المعطيات والحقائق المتعلقة بالهجرة من البلدان العربية واليها، اصدرت المنظمة العالمية للهجرة عام 2003 تقريرا شمل دراسات وأبحاثاً عدة. وكشف ان العديد من البلدان العربية تعتمد على الهجرة كمورد للدخل يسهم في مشاريع التنمية الاقتصادية والعلمية لتطوير البنى التحتية لمجتمعاتها. وتشير دراسة المنظمة العالمية للهجرة الى "ان لبنان قد يشكل البلد الاول في العالم من ناحية تصدير الهجرة مقارنة بعدد سكانه. اذ يوجد نحو 14 مليون مهاجر لبناني، وهو ما يفوق ثلاثة اضعاف عدد سكان البلد". ما وراء الارقام لكن ماذا عن الصعوبات والازمات التي يعانيها المهاجرون العرب سواء كانوا في بلدان عربية أم اجنبية؟ مروان لبناني مقيم في البحرين، يقر بوجود "اختلافات بسيطة على رغم كوننا عرباً اذ لكل شخص عاداته وتقاليده قد تختلف عن عادات الغير، فالمجتمعات الخليجية لها خصوصيتها...... والدليل الى ذلك انعدام الزيارات الاجتماعية على رغم العلاقات الممتازة التي تجمعني بالكثير من الاصدقاء هناك". أياد 45 سنة مهندس مدني لا يرى "أي اختلافات بين المجتمعات العربية والاسلامية، اذ يكفي ان دين الله يجمعنا". وبالنسة الى اياد "لا فارق بين بحريني واردني، خليجي وسوري". وسيم 29 سنة يعترف بوجود احكام مسبقة احيانا يضع اصحابها الطرف الثاني في قفص الاتهام لمجرد انتمائه الى معتقد آخر وسبق ان تكررت مع وسيم بعض التجارب اكثر من مرة. ويرى الشباب العشريني انه ما زال على المجتمعات العربية الكثير على صعيدي "تقبل الآخر والاعتراف بحقوقه وتعدديته". اما فريال 29 سنة مديرة أحد المطاعم، فتؤمن بخصوصية المجتمعات. تقول: "ان الكثير من النساء يواجهنها بنظرات عتب واستهجان، في حين لا غبار على مهنة مماثلة في المغرب بلدها الام". لم تنف سعاد 31 سنة التونسية وجود "فروقات" بين المجتمعات العربية. الا ان الناحية الشخصية تشكل الحيز الاكبر من اشكالية الهجرة. وتضيف: "اصعب ما في الهجرة الحنين الى الاهل واماكن الطفولة التي اصبحت بعيدة". لا شك في ان للهجرة مسلكين منفصلين ومتضادين، فهي من جهة تؤدي الى افراغ المدن والارياف من الشباب، خصوصا الذكور. ناهيك بالاختلال الديموغرافي والتغير في قاعدة الهرم السكاني، وهي بالتأكيد تخسر الطاقات المؤهلة وهذا ما يعرف بهجرة الادمغة. الا ان للهجرة وجهاً مشرقاً على الضفة الاخرى، فهي تمد البلدان المهاجرة اليها باليد العاملة وتؤدي الى تمتين الاواصر الثقافية والحضارية بين المغتربين والمجتمعات المهاجر اليها. وهي بالطبع تعود بالفائدة على البلدان المهاجر منها لا سيما عبر التحويلات الآتية من وراء البحار او على صعيد تدني البطالة. ويبقى للمهاجر لعنة التأرجح بين عودة أو بقاء، لقاء او وداع. وبقدر ما تبدو المسافة الفاصلة قريبة، الا انها شاسعة وشاسعة جداً.