ربما استطعنا الطلوع بألف سبب للكارثة في العراق، وربما اكتفينا بعشرة أسباب أكثر أهمية من غيرها، ولكن لو كانت القائمة طويلة أو قصيرة تظل السلطة الموقتة للتحالف ورئيسها بول بريمر قرب رأس القائمة، فالمندوب السامي الأميركي أخذ كل قرار خاطئ ممكن، ثم استباح العراق بمجموعة قوانين تسهل نهبه، والآن جاء ليدافع عن نفسه كأن الناس فقدت ذاكرتها أو عقلها. هو كتب مقالاً في"واشنطن بوست"في نهاية الاسبوع كان عنوانه"ما أصبنا بعمله في العراق"غير ان المقال لا يضم معلومات عن خطوات اتخذها لم نسمع بها، أو لم تلقَ ما تستحق من اهتمام، وإنما يدافع عن قرارين: منع حزب البعث الذي عرف باجتثاث البعث، وتسريح الجيش العراقي. بالنسبة الى القرار الأول يقول بريمر ان الجنرال تومي فرانكس، قائد القيادة المركزية، اتخذه قبل وصوله الى العراق، وأن دوغلاس فايث، الرجل الثالث في وزارة الدفاع الذي قدم معلومات الاستخبارات البديلة، أي الملفقة، أعطاه قبل يوم من سفره الى بغداد في أيار مايو 2003 مسودة مشروع قانون لطرد البعثيين من مناصبهم الحكومية، وهو اختار التريث. بالنسبة الى الجيش، فهو يقول ان عدده في 2003 كان 315 ألف جندي، غالبيتهم من الشيعة، و80 ألف ضابط سنّي، وقد ترك أكثرهم الجيش وعاد الى بيته بعد خسارة صدام حسين الحرب. وهكذا لم يكن هناك جيش في الواقع، هو بنى جيشاً من المتطوعين. من يصدّق هذا الكلام؟ يصدّقه دوغلاس فايث وأمثاله من عصابة الحرب الذين دمّروا العراق على رأس أهله عن سابق تصور وتصميم. ولن أحاول هنا ان أرد على كلام بريمر فنحن نعرف الحقيقة، وإنما أنبّه القارئ الى ان بريمر في مقاله الوقح يحاول ان يبني مقارنة بين صدام حسين والبعث والعراق وبين هتلر والنازيين وألمانيا، وهي مقارنة يطرب لها اللوبي اليهودي ومنظّرو المحافظين الجدد. هتلر قاد دولة احتلت أوروبا، ومثلت خطراً على بقية العالم، وصدام حسين كان محاصراً في دولة من العالم الثالث، ولا سلاح عنده أو قوات كما يقول بريمر نفسه. وبريمر يأخذ المقارنة الى نهايتها بالقول ان اجراءاته عبر السلطة الموقتة للتحالف كانت أقل مما اتخذ دوايت ايزنهاور ضد النازيين بعد الحرب العالمية الثانية. وهو هنا يقارن نفسه بقائد الحلفاء العظيم، ويقارن احتلال العراق بالحرب العالمية الثانية. هناك تاريخ مسجل لبريمر وسلطته، وهو تاريخ أسود، فقد خرّب البلد عندما حكمه بين أيار مايو 2003 وحزيران يونيو 2004، وأرسى أسس كل خراب لاحق. في 16 /3/ 2003 أصدر بريمر قراراً أوكل لنفسه كل السلطات، وقال:"ان السلطة الموقتة للاحتلال تملك كل صلاحية تنفيذية وتشريعية وقضائية ضرورية لتحقيق أهدافها وتمارَس ضمن قرارات الأممالمتحدة، بما فيها القرار 1483 الصادر سنة 2003 وقوانين الحرب وإدارتها. وسيمارس هذه السلطات رئيس السلطة الموقتة للتحالف، أي بريمر، الذي يحاول الآن ان ينكر مسؤوليته عن الخراب التالي والفساد. أتوقف لأقول انني سأقدم في السطور الباقية نماذج عن الكارثة التي أدارها بريمر، وكل معلومة أقدمها موجودة في تقارير رسمية أميركية، وفي تحقيقات الكونغرس، من دون ان أعتمد على أي مصادر أخرى، صحافية أو غيرها. - بريمر تلقى 20.2 بليون دولار خلال 13 - 14 شهراً من إدارته، منها 8.1 بليون دولار بقيت عند برنامج النفط مقابل الغذاء الذي أدارته الاممالمتحدة، و10.8 بليون دولار من دخل النفط العراقي والبقية من أموال كانت مجمدة ومصادر أخرى. - استقال مستشار سلطة التحالف في وزارة المال بعد ان قال ان من أصل 1.6 مليون موظف حكومي يدفع الاحتلال مرتباتهم، هناك في الواقع 250 ألف موظف عامل الى 300 ألف فقط. - وجد محاسبو الأممالمتحدة دفعة بمبلغ 2.6 مليون دولار عن عمل في وزارة النفط ولم يعثر المحاسبون على العقد، ولم يروا ما هو العمل الذي أنجز. - المحاسبون أنفسهم سجلوا 37 حالة اختفت فيها عقود بمبلغ 185 مليون دولار. وكانت هناك 52 حالة أخرى اختفت فيها بضائع بمبلغ 87.9 مليون دولار. - مكتب المحاسبة الحكومي الأميركي، قدر ان بليون دولار أهدرت بسبب رفع المقاولين الأسعار من دون مساءلة منذ الحرب. والحكومة العراقية وجدت هدراً بمبلغ 1.27 بليون دولار. - شركة هاليبرتون، التي كان يرأسها ديك تشيني، نالت نصيب الأسد من العقود، فقد كان لها وحدها 60 في المئة من جميع العقود، بينها خمسة عقود من دون منافسة بمئات ملايين الدولارات. ما سبق نقطة في بحر الفساد أيام بريمر وبعده، وآخر ما عندي تقرير حكومي أميركي رسمي عن سرقة يومية من إنتاج نفط العراق قدرت بين 100 ألف و300 ألف برميل. العراق دُمّر، وقُتل أهله، ونهبت ثرواته، ونحن نتفرّج، أو نحكي، أو نكتم في القلب مكتفين بأضعف الإيمان.