يحدد الكاتب حسام عيتاني في كتابه "هويات كثيرة وحيرة واحدة" الصادر حديثاً عن دار الساقي، أفكاراً متعددة، يؤكد من خلالها سقوط النظام السياسي اللبناني القائم على تقسيم المجتمع مجموعة طوائف، وهو إذ ينطلق من هويته السياسية العلمانية، التي نشأ عليها، فإنه لا يتوانى عن طرح سؤاله الفلسفي الكبير:"من نحن"؟ ليقرأ واقع المجتمع اللبناني وهواجس جماعاته الطائفية التي ما زالت تعمل لقيام متحداتها المذهبية الخاصة. لا شك في أن الأسئلة التي واجهت وما زالت تواجه اللبنانيين منذ انشاء دولتهم ما فتئت تتزايد: من هم؟ واذا كانت نظراتهم الى الماضي مثالاً على التشرذم، فهل توحّدهم رؤية الى المستقبل؟ والسؤال أيضاً: كيف ننتقل من هويات الجماعات الى هوية المجتمع؟ هل باستمرار النظام السياسي الطائفي القائم أم بتغيير هذا النظام وانشاء نظام مدني قائم على المواطنية وحقوق الإنسان؟ ضمن هذه الرؤية، يعالج عيتاني تصورات الكثيرين من الكتّاب والباحثين اللبنانيين، لمفهوم الهوية والأمة والطائفية، ويشير هنا الى جواد بولس وميشال شيحا، وطروحاتهما بين"الحتمية الجغرافية"وپ"الرغبة في العيش معاً". غير أن الثبات يشي بتعريفات تزامنت مع وضع بلد خرج من سطوة الاستعمار الأجنبي باحثاً عن عناصر الوحدة بل عن معنى وجوده وكيفية ادامة هذا الوجود وان عبر تجاهل أهمية الانقسام الحاضر. لكنّ الايديولوجيا بعد ذلك لم تجد هنا سوى"النزاعات المسماة طائفية"لتفسير أسباب الأعاصير التي ضربت لبنان. ويذهب نقاد الهوية الطائفية الى تجريد خطابها من أي معنى ورميه بالعبثية التامة لأن"الكلام عن الهوية ليس كلاماً شاهداً على الحقيقة التي يدعي التعبير عنها في أوقات الحرب والاضطرابات العنيفة". ومعنى هذا أن لا يمكن النظر الى الصراع اللبناني - اللبناني باعتباره صورة عن نوبات من الجنون والوحشية"وان لم يخل منهما". فالتوصيف هذا الذي تبناه نقاد الطائفية يتفق في العمق مع مقولات تضع لبنان، كدولة وحياة سياسية واقتصاد واجتماع خارج حدود الإدراك العقلي. بل لا يمكن اعتبار الصراع الأهلي اللبناني كغيره من الصراعات والحروب الأهلية في العالم، قابلاً للفهم العقلاني. من الضروري القول ان الهويات، وان تسمرت في مواجهة بعضها بعضاً، فهذا التسمر في الموقع لا يعني بالضرورة جموداً في المضمون. وبحسب عيتاني يمكن العثور من دون كبير جهد على اشارات عدة على تغير مضامين الهويات الطائفية أثناء الحرب الأهلية في لبنان وبعدها. من هذه التغيرات ما يلاحظ في ازدياد المحمول الايديولوجي في تنظيم الاحتشاد الطائفي، على أن ذلك لا ينفي نفياً قاطعاً وجود"شوائب"فاشية أو طبقية في العنف الذي مارسته قوى لبنانية تأثرت بالتبدل في بنية المجتمع اللبناني منذ خمسينات القرن الفائت بلوغاً الى مطلع سبعيناته. أحجمت المساعي الرامية الى بناء إجماع وطني وهوية لبنانية جديدين، بعدما وضعت الحرب الأهلية أوزارها، عن تشريح الأسباب الموضوعية للصراع، واكتفى معظمها بتصوير أفعال"خارج"لا يتوقف عن تصدير شروره الى لبنان. يضاف الى ذلك أن هناك قراءات للنخبة اللبنانية، بين من يعيد أسباب الحرب الأهلية الى"التناقضات اللبنانية"ومن يشخص أسباب الصراع بأنه تجسيد لپ"التناقضات في سيرورة أزمة الحركة التحررية العربية، في مرحلة انعطافها التاريخي". ويسأل الباحث هنا: هل صحيح أن العنف في لبنان في القرنين التاسع عشر والعشرين مرتبط بالخلفية التاريخية التي جاء اللبنانيون منها؟ أم هو ناجم عن جملة"التناقضات"التي يعيد الواقع وضعهم أمامها، أو التي يعيدون انتاجها؟ أم أن"الآخرين"من خارج الحدود هم المسؤولون الوحيدون عن تكدير"هناءة العيش"التي ينعم اللبنانيون بها لولا تآمر المتآمرين وغاياتهم الخبيثة؟ قدمت الحروب الأهلية في لبنان منذ القرن التاسع عشر دروساً مهمة في التطور الاجتماعي، ومن خلاصتها أنها ليست تكراراً آيلاً لأحداث تعيد انتاج أسبابها. فكل حرب أهلية هي انفجار جديد لعداوات جديدة تتكون ضمن أفق تاريخي واقتصادي وثقافي مختلف عما رافق الحروب السابقة. وإذا كانت مواقع الجماعات التي تتواجه في الحروب الأهلية تتغير، فإن هويات الطوائف المتحاربة تتغير هي أيضاً. ويكون الصراع الأهلي المسلح في هذه الحال، عنصر تكثيف للوعي الجماعي وپ"جوهرته"بمنعه من التفاعل الهادئ مع الآخر.