يقال إن الحروب غالباً ما تؤدي إلى تغيرات جذرية في البنية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في الأقطار والمجتمعات المعنية، وتنتج اطراً دستورية تنظم العلاقة بين المواطن والسلطة وبين الجماعات الأهلية المتعددة بعضها بعضاً. فالحروب تشكل قنوات وأدوات قاطرة لايقاظ الشعوب من ثباتها العميق واعتناق أنماط جديدة من التفكير الراديكالي التي تساعد على تضميد جراح الماضي والانطلاق بعقلانية وثقة وجرأة نحو المستقبل. ويبدو أن هذه النظرية المتواضعة لا تنطبق على الحال اللبنانية حيث تشكل الصراعات الأهلية الدموية المتكررة خير دليل على تجذر وتعمق ثقافة الطائفية وسطوة الطوائف الدينية في الذهنية والعقلية الشعبية. فاللبنانيون لم يتعلموا إلا القليل من الدروس والاستنتاجات المفيدة جراء نزاعاتهم العديدة والطاحنة والمكلفة انسانياً وحضارياً. صحيح أن الحرب الأخيرة في لبنان انتهت عام 1990، لكن العصبية الطائفية لا تزال حية ترزق، تنتظر اللحظة المناسبة لتفجير السلم الأهلي وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء. لقد أظهر الجدال والنقاش السياسي في ما يتعلق بالوجود السوري العسكري في لبنان هشاشة الوفاق والتعايش الوطني، وقدرة امراء الطوائف على اللعب على أوتار العصبية الطائفية لتهميش رجال السياسة وخلق حال من الاستقطاب الديني الخطير. ومما لا شك فيه ان الكلام والتخمينات الصحافية بخصوص اندلاع حرب جديدة بين اللبنانيين مضخمة وتفتقر إلى الدقة، لكن الاستقطاب الطائفي يغذي جذور الخوف وعدم الثقة بين المواطنين ويؤدي إلى شلل الحياة السياسية والاقتصادية واضعاف الدولة المركزية وهيمنة القوى الخارجية المؤثرة على القرار الوطني. اللافت أن معظم اللبنانيين، على اختلاف مشاربهم، ينتقدون بشدة وعنف الممارسة الطائفية، ويعتبرونها مسؤولة عن الكوارث التي حلت بالمجتمع وأضعفت بنيته الداخلية وتركته عرضة للرياح الخارجية العاتية. ويذهب اللبنانيون إلى أبعد من ذلك في تحميلهم هذه الظاهرة مسؤولية اخفاق بناء الدولة الحديثة وكل العوارض المرضية المتفشية في الجسد السياسي اللبناني، بما فيها فشل التنمية الاجتماعية السوسيولوجية والانصهار المجتمعي. ويشدد البعض الآخر من اللبنانيين على أن تفشي الروح الطائفية مرده إلى التدخل الخارجي في شؤونهم المحلية، وعلى أن هذه الآفة أو المرض المستفحل في الجسد السياسي والذاكرة التاريخية صُدرت إليهم من الخارج بواسطة القوى العظمى، بما فيها الغرب والسلطات العثمانية التي تصارعت في ما بينها لإحكام سيطرتها على "جبل لبنان" منذ أوائل القرن التاسع عشر. ما أبرع اللبنانيين في إلقاء اللوم على الآخرين وتبرئة أنفسهم من تهمة العصبية الطائفية! الاشكالية المحورية في نظرهم خارجة عن ارادتهم السياسية، فهم بالتالي غير مسؤولين مطلقاً عما أصابهم من ويلات وخسائر جسيمة نتيجة الحروب الطاحنة التي تفجرت على المسرح اللبناني منذ عام 1840. وهكذا ينظر اللبنانيون إلى أنفسهم على أنهم أبرياء من النعرة الطائفية ومجرد ضحايا لا أكثر ولا أقل، يدفنون رؤوسهم في الرمال المتحركة بدلاً من مواجهة الوقائع والحقائق التاريخية الصعبة ومحاولة ابتكار آليات لتجفيف ينابيع ومجاري العصبيات الطائفية في المجتمع والدولة اللبنانية. على الطرف الآخر من المعادلة التاريخية يقف الكتّاب المستشرقون الذين يزعمون أن بذرة الطائفية زرعت منذ أمد طويل في التربة اللبنانية الخصبة وانتجت عقلية دينية، أصولية متزمتة غير قابلة للتغيير والتجديد والتطوير. ومن وجهة نظر المستشرقين، العصبية الطائفية ليست خياراً إرادياً أو طوعياً للبنانيين، بل قدر لا مهرب منه ولعنة تلاحقهم وتستنزف قواهم البشرية والحضارية. وهكذا يتم تصوير العصبية الطائفية على أنها "لاتاريخية"، و"ما قبل الحداثية"، و"لاعقلانية"، متجذرة بعمق في التركيبة الاجتماعية والشخصية اللبنانية. وهكذا تصبح الطائفية ظاهرة شاملة بإمكانها تفسير كل شيء ولا شيء. ترمى معظم التفسيرات للمصائب التي حلت بلبنان في الصندوق السحري للطائفية، والنتيجة اضطراب وفوضى تحليلية. من هنا يصعب التمييز ما بين السبب والنتيجة. والخوف، كل الخوف، أن هذه الفوضى التحليلية قد تجعل من تفكيك العصبية الطائفية أكثر صعوبة، وبدلاً من ذلك تستمر وتطول. أسامة مقدسي، مؤرخ لبناني شاب، يحاول في كتابه "ثقافة الطائفية" The Culture of Sectarianism الذي صدر أخيراً عن جامعة كاليفورنيا للنشر، نقد وتفكيك الاطروحات التبسيطية في ما يتعلق بطبيعة الطائفية ونشأتها. ويرفض المؤرخ التفسيرات التي تعتبر هذه الظاهرة آفة محلية أو مؤامرة خارجية، وبدلاً من إلقاء اللوم على اللبنانيين أو الاستعمار الأوروبي والعثماني، يشدد مقدسي على أنه لا يمكن فهم الطائفية إلا من خلال الأخذ في الاعتبار التاريخ المحلي والاستعماري واحتكاكهما وتواصلهما وصراعهما وتعاونهما، والذي أدى إلى ولادة ذاكرة تاريخية جديدة "تتموضع اصولها وجذورها في التقاطع ما بين الاستعمار الأوروبي في القرن التاسع عشر ومشروع التنمية العثمانية. التحمت هاتان القوتان في صراع لتحديد الوجه الحديث للشرق الأوسط، وكانت النتائج النهائية لهذا الصراع إعادة رسم الخارطة السياسية والثقافية للمنطقة". إن نتائج تعرض المجتمع اللبناني للخطاب الاصلاحي الأوروبي والعثماني في منتصف القرن التاسع عشر غيّر جذرياً معنى الدين في جبل لبنان، حيث تنتشر الطوائف، بسبب "التركيز على الهوية الطائفية كمحدد/ مؤشر لمشروع الاصلاح السياسي وكأساس أصيل ووحيد للمطالبات السياسية". كما يشدد مقدسي على أن العصبية الطائفية نشأت كظاهرة سوسيولوجية نتيجة احتكاك وانفتاح المجتمع اللبناني على العالم الخارجي، خصوصاً العلاقة المعقدة بين أوروبا والسلطات العثمانية. ليس هناك من جينات لبنانية طائفية أبدية وطبيعية، بل العكس هو الصحيح: العصبية الطائفية ما هي إلا ظاهرة حديثة، تاريخية، نشأت وانتجت في منتصف القرن التاسع عشر وترسخت وتجذرت في ما بعد، حتى أصبحت تمثل وتشكل ثقافة مجتمع بأكمله. يناقش المؤرخ اللبناني الشاب في كتابه، الذي أعده كأطروحة لرسالة الدكتوراه في جامعة برنستون الأميركية، الأحداث الدموية الطائفية ما بين عامي 1840 و1860 ليبين النشأة الأولى لولادة الطائفية ومن ثم تجذر هذه الظاهرة في التركيبة الاجتماعية والسياسية اللبنانية. ويحذر مقدسي القارئ من الاعتقاد الخاطئ بأن الانتماء الديني لعب دائماً المحدد الرئيسي للبنانيين، ويشدد على أن مؤشرات أخرى، مثل العائلة والطبقة الاجتماعية، كانت أهم بكثير في تحديد هوية وتواصل اللبنانيين مع بعضهم بعضاً قبل منتصف القرن التاسع عشر. تجدر الإشارة هنا إلى أن الأحداث الدموية بين عامي 1840 و1860 لم تمثل صراعاً طائفياً بحتاً، بقدر ما كانت صراعاً طبقياً ونخبوياً - عمالياً داخل الطوائف نفسها، قبل أن تكون ما بين الطائفتين الدرزية والمارونية. المهم في هذه الرواية التراجيدية أن ثقافة الطائفية تجذرت وترسخت في المجتمع اللبناني بعد النزاع الدموي عام 1860، حتى أن هذه الثقافة لقحت مؤسسات الدولة الوطنية الحديثة وذهنية النخبة النافذة. صحيح أن الانتماء الديني لم يزرع في بنية المجتمع اللبناني إلا بعد منتصف القرن التاسع عشر، لكنه أصبح واقعاً وحقيقة مؤلمة لا يمكن الهروب منها أو انكارها. يتساءل القارئ عن الهدف من اظهار ان الطائفية كظاهرة ولدت وانتجت في منتصف القرن التاسع عشر، ولم تكن أبدية في الروح أو الشخصية اللبنانية، كما يدعي دعاة الاستشراق. هناك فرق كبير بين هاتين المعادلتين التاريخيتين.إذا كانت الطائفية، من وجهة نظر مقدسي، نتاج مرحلة وظروف تاريخية معينة، عندئذ يمكن ايجاد الآليات الفاعلة لتفكيكها والانطلاق نحو آفاق وطنية أكثر رحابة وتقدمية. المهم أن يفهم اللبنانيون نشأة جذور الانتماء الطائفي لكي يستطيعوا التعامل معه بواقعية وفاعلية: "ان بداية الطائفية لا تعني العودة إلى ماضٍ بعيد غير منظور بقدر ما توحي بحدوث انقطاع Rupture، أي ميلاد ثقافة جديدة، حيث اختارت الانتماء الديني كمحدد عام وسياسي للرعية الحديثة أو المواطن الحديث. وللتغلب عليها، إذا كان ذلك ممكناً، يتطلب انقطاعاً آخر جديداً، انقطاعاً راديكالياً بالنسبة الى الجسد السياسي يماثل الانقطاع الذي رافق بروز الطائفية بالنسبة الى الجسد السياسي السابق، ويتطلب ذلك رؤية جديدة للحداثة". أسئلة عدة تطرح نفسها هنا: كيف يمكن أن يتأتى هذا الانقطاع التاريخي؟ هل يوازي مقدسي هذا الانقطاع بالثورة الاجتماعية التي يمكن أن تعيد بناء المجتمع والمواطن والدولة بشكل راديكالي، وما يرافقها من نتائج خطيرة؟ وهل هناك أي ضمان ان هذا الانقطاع الراديكالي لن ينتج جوانب ذات نتائج خطيرة؟ وماذا يظهر تاريخ التقاطعات في السياسة العربية المعاصرة عن إمكان الوصول إلى عقد اجتماعي جديد أو تغيير تقدمي ديموقراطي حقيقي؟ كيف تعيد ثقافة الطائفية انتاج نفسها؟ ومن هم المستفيدون من الابقاء على الوضع الراهن على حاله؟ كيف يمكن للمجتمع المدني تفكيك مصالح النخبة الطائفية المتجذرة؟ يأمل المراقب بأن يبادر مقدسي والكتاب اللبنانيون إلى طرح هذه الأسئلة في محاولة جدية لتخطي حواجز وعقبات الانتماء الطائفي، وبناء مشروع حضاري أكثر شفافية وإنسانية. لقد قدم مقدسي بكتابه انجازاً مهماً لفهم كيف أصبح التراث الديني مؤشراً أساسياً للهوية السياسية الحديثة في لبنان. إن التحدي الذي يواجه المواطنين اليوم هو ايجاد آليات وطرق أكثر تقدمية وحضارية لتحديد هوياتهم السياسية وحدود مجتمعاتهم المحلية. * استاذ العلاقات الدولية ودراسات الشرق الأوسط في جامعة ساره لورنس في نيويورك.