لأن السينما الكبيرة لا تولد إلا من رحم الأزمات، كان لا بد من أن يلمع نجم السينمائيين اللبنانيين الشباب، الذين لا يتوانون يوماً بعد يوم عن مفاجأتنا بأعمال أقل ما يقال عنها إنها ثبتت أقدام السينما اللبنانية على خريطة السينما العالمية. ففي وقت تعيش البلاد حال ركود سياسية، يعيش الفن السابع اللبناني ازدهاراً، ولو عبر ولادات قيصرية لأفلام تنال إعجاب الخارج قبل الداخل... افلام تفيد مرة أخرى بأن السينما اللبنانية بألف خير، طالما صنّاعها مواظبون على النهوض بهذا الفن في وطن يعج بحكايات جديرة بأن تروى. ومع هذا، لم يعد خافياً على أحد حقل الألغام المزروع على طريق النهضة السينمائية في وقت يجرد فيه الفرد من أدنى حقوقه المدنية، فكيف بالأحرى إن كان الحديث عن الفنون وغياب الدعم الرسمي لها؟ من هنا مشاريع فنية كثيرة أجهضت في منتصف الطريق، ومشاريع أخفقت، وأخرى ظلت حبيسة الأدراج... قلة فقط حالفها الحظ وأبصرت النور، بعدما سلكت، من دون أدنى شك، درب الجلجلة، الذي لا بد من أن يسلكه أي فيلم صنع في لبنان. أما"المفاجأة"فأتت هذه المرة مزدوجة. أولاً لأنها جاءت من المهرجان الأعرق في تاريخ السينما العالمية، مهرجان"كان"الذي يفتح أبوابه لسينمات العالم كلها بعد أيام. وثانياً بتوقيتها السياسي. ففي حين يمكن وصف الوضع اللبناني اليوم بپ"راوح مكانك"، يأتي اختيار فيلمي دانيال عربيد ونادين لبكي في تظاهرة"أسبوعا المخرجين"التي تقام بموازاة المسابقة الرسمية، ليمثل نوعاً من تمرد الشباب على حال الجمود السياسي، من خلال حركة سينمائية ناشطة بعد سنوات من الشلل. ولا شك بأن بعض المتشائمين ممن نعوا إمكان ولادة صناعة سينمائية لبنانية، سيعيدون التفكير ملياً بعد"مفاجأة"مهرجان"كان"هذه. مفاجأة... لا"مفاجأة" هي مفاجأة بين هلالين، لأن الحضور اللبناني، خصوصاً حضور عربيد ولبكي، كان متوقعاً، ورصدنا له سطوراً على هذه الصفحات. بداية لأن دانيال عربيد ليست غريبة عن هذه التظاهرة التي تعتبر تاريخياً، ممراً أساسياً لكبار مخرجي العالم قبل وصولهم الى هذه المكانة. ففيلمها الروائي الطويل الأول"معارك حب"سوّق من هناك، ونال جائزة أوروبا التي تدعم تسويق الأفلام عند نزولها في الصالات، قبل أن يجول من مهرجان الى مهرجان. من هنا كان احتمال اختيار فيلمها الثاني"الرجل التائه"في المهرجان الذي عرّف الجمهور بها، كبيراً، خصوصاً أن إنتاجه فرنسي شركة"أم ك 2"بمليوني يورو. وفي السياق ذاته، تسير حكاية نادين لبكي، اللبنانية الأخرى المشاركة في التظاهرة ذاتها في"كان"، والتي آثرت الابتعاد لفترة عن عالم الفيديو كليب، من أجل تحقيق حلمها السينمائي بعد صولات وجولات مع الأغنيات المصورة التي جعلتها ذائعة الصيت، إذ كانت إحدى المجددين فيها، من خلال أعمال مميزة، لا تخلو من البصمة السينمائية. لبكي أتاها الجواب قبل نحو ثلاث سنوات من"كان"، حينما اختير، سيناريو فيلمها "سكر بنات" مع خمسة آخرين من أصل 150 سيناريو تقدم بها مخرجون من حول العالم للحصول على دعم خاص. أضف الى ذلك أن الإنتاج فرنسي آن دومينيك توسان، ما عزز فرضية عرضه في المهرجان الذي منحه الدعم. وفي الحالتين لبنان هو البطل. ففي"الرجل التائه"تصور عربيد جزءاً من تاريخ بيروت من خلال قصة مؤثرة للبناني فارق وطنه قبل 17 سنة، ففارقته الذكريات بعدما أصيب بمرض النسيان. ولكن يحدث أن يتقاطع دربه مع درب مصور فرنسي يجوب العالم بحثاً عن المغامرات، ليعيده الى ماضيه، وذكرياته. وفي"سكر بنات"سيخوض هذا الفيلم جائزة"الكاميرا الذهبية"باعتباره الفيلم الروائي الطويل الأول لصاحبته تصور نادين لبكي دردشة نسائية بطلاتها خمس نساء يجتمعن في صالون تجميل، ليطلقن العنان لأحاديث من عمق المجتمع اللبناني، في شكل يكشف ان الصالون ما هو إلا مرآة للواقع السياسي، الاجتماعي، النفسي.... وليس فيلما عربيد ولبكي الوحيدين اللذين يمثلان لبنان في"كان"، إذ اختارت تظاهرة"كل سينمات العالم"لبنان ليمثل السينما العربية هذه السنة، بين بضعة بلدان أخرى يمثل كل منها حيزاً جغرافياً. وهكذا يعرض من لبنان في هذا الإطار ثمانية أفلام، أربعة طويلة، وأربعة قصيرة. الأفلام الطويلة، غالبيتها أثارت اهتمام الجمهور والنقاد إبان عرضها، من"لما حكيت مريم"للمخرج أسد فولادكار الذي كان باكورة النهضة السينمائية اللبنانية الجديدة، وسال من حوله حبر كثير، الى فيلم ميشال كمون"فلافل"الذي تميز بنضج سينمائي كبير، مروراً ب"يوم آخر"للثنائي جوانا حاجي توما وخليل جريج، الذي أثار اهتمام الخارج أكثر من الداخل، و"أطلال"غسان سلهب الذي لم يحظ الا باهتمام حلقة ضيقة من السينمائيين. أما الأفلام القصيرة فهي، فيلم هاني طمبا"بيروت ما بعد الحلاقة"الحائز جائزة"السيزار"الفرنسية قبل سنتين، إضافة الى فيلم"prگt a porter أم علي"لديما الحر، و "011010010" لشادي روكز، وپ"في اليوم الأول" لقصي حمزة. ولا يقف الحضور اللبناني عند هذا الحد، إذ نجده، أيضاً، في جناح خاص في سوق المهرجان الذي يعتبر اكبر سوق للفيلم في العالم. أضف الى ذلك الحديث عن تمثيل لبناني في تظاهرة"أسبوع النقاد"، واختيار تظاهرة"محترف"التي تهتم بمناقشة السيناريوات لمشاريع مقبلة، مشروع فيلم الثنائي جوانا حاجي توما وخليل جريج"لا أستطيع العودة الى منزلي"الذي يتمحور حول موضوع الحرب... بعد هذا كله، هل يشك أحد أن السينما اللبنانية بألف خير؟