منطقي أن يلقي الركود السياسي في لبنان بظلاله على الحركة السينمائية، فيشلها ويعطل مشاريعها، تماماً مثلما حدث إبان الحرب الدموية التي طالت عشرات السنين، ممزقة أواصل سينما كانت بدأت تولد مع مارون بغدادي ورفاقه. لكنّ التمزق لم يحدث هذه المرة. فما شهدته بيروت خلال هذه السنة سينمائياً لا يشبه ما عاشته بيروت أواسط السبعينات امتداداً الى تسعيناتها. إذ خلافاً لكل التوقعات، ولما كان يحدث في السابق، فاجأ العام الذي نودعه الجميع بتمرد سينمائييه على الواقع وتحديهم لصعوبات شتى من خلال إصرارهم على العمل وإنجاز أفلام من رحم الحياة نفسها، ثم إيصال أفكارهم الى أكبر عدد من المهرجانات الدولية... كل هذا من دون أي دعم يذكر من جانب الدولة، سواء كان دعماً مادياً أو معنوياً... من هنا لا يعود مستغرباً الحديث عن تنامي عجلة السينما في لبنان على رغم الأوضاع السياسية التي تعيد البلاد الى الوراء. ذلك أن مشاريع كثيرة أبصرت النور خلال هذا العام، ومشاريع أخرى بدأ التحضير لها، نذكر منها مثلاً فيلم سمير حبشي"دخان بلا نار"في تعاون مصري لبناني قد يفتح آفاقاً جديدة أمام السينما اللبنانية التي لا تنفك تبحث عن الدعم المادي في البلاد الغربية من دون جدوى في أحيان كثيرة. تعاون سيتكرر مع سينمائيين آخرين، بينهم مي المصري التي تحضر لفيلمها الروائي الطويل الأول بعد سلسلة من الأفلام الوثائقية. ليس هذا فحسب، لاقت السينما اللبنانية أينما حلت إعجاباً كبيراً وحصدت الجوائز، بعضها لقيمة الأفلام الفنية، وبعضها كتحية الى لبنان. نادين لبكي... المفاجأة من هو"سينمائي العام 2007"؟ لا شك سيطل اسم نادين لبكي قبل أي اسم آخر ليجيب عن هذا السؤال. فهذه السينمائية الشابة التي عرفها الجمهور بين أبرز مخرجي الفيديو كليب في العالم العربي، فاجأت الجميع بشريطها الروائي الطويل الأول"سكر بنات"، إذ حققت فيه المعادلة الصعبة: ارضاء النقاد والجمهور في آن. معادلة قلما حققتها أفلام ما بعد الحرب. إذ غالباً ما صنفت، إما كأفلام مهرجانات وإما كأفلام تجارية. فقط مع نادين لبكي تحقق ما يحلم به أي سينمائي، بعدما بيع فيلمها الى نحو 50 بلداً، بينها الولاياتالمتحدة المعروفة بصعوبة دخول الأفلام الأجنبية أسواقها. كما حقق الفيلم أرقاماً كبيرة في الصالات التجارية، ولم يتوقف عن نيل الجوائز. من جائزة النقد الدولي في المهرجان الدولي للفيلم في استوكهولم، وجائزة"أوبرا بريما"في المهرجان السينمائي الدولي في سان لويس في الأرجنتين، وجائزة التمثيل لمجموع ممثلاته في مهرجاني دمشق وأبو ظبي، وشهادة تقدير مهرجان القاهرة... من دون أن يغيب عن البال نيله إعجاب جمهور"كان"إبان عرضه الأول في تظاهرة"أسبوعي المخرجين"في المهرجان الأعرق في تاريخ السينما. ما يدفع الى السؤال عن الخلطة السحرية التي وقعت عليها لبكي للخروج بفيلم لا شك أنه لن يكون عابراً في تاريخ السينما اللبنانية، بل حتى في تاريخ السينما العربية؟ ببساطة تكمن قوة"كاراميل"أو"سكر بنات"في كونه فيلماً من الحياة اليومية. أبطاله شخصيات طريفة من لحم ودم، وموضوعه بعيد من الحرب اللبنانية التي شكلت في فترة سابقة هاجس كل سينمائي، ما دفع الجمهور الى الانصراف عن تلك الأفلام بعدما ملّ الحديث عن حرب تعلقت السينما بأغلالها بدلاً من أن تفك قيودها. أفلام الحرب... مرة أخرى لكنّ سينما الحرب لم تغب إلا لتعود مجدداً. عادت مع برهان علوية الذي ينتمي الى جيل بغدادي، بعدما انكفأ سنوات عن تقديم أي جديد. في فيلمه الروائي الثالث"خلص"نال جائزة أفضل سيناريو وأفضل مونتاج في مهرجان دبي يواصل صاحب"كفرقاسم"وپ"بيروت اللقاء"ما بدأه قبل ربع قرن، وكأنه عاجز عن الهروب الى الأمام. فالماضي لا يمضي، والقلوب لم تغسل بعد... لكن الحرب لا تكتفي بمحاصرة جيل بغدادي. إنما كبّلت أيضاً أجيالاً متتالية، وصولاً الى جيل السينمائيين الاكثر شباباً. شادي زين الدين أحد هؤلاء. فيلمه الروائي الطويل الأول"وعلى الأرض السماء"نموذجاً. في هذا الفيلم يصور المخرج الحرب الداخلية التي يعيشها اللبناني لا مشاهد القصف والدماء والدمار. حرب تأبى أن تترك أبطالها يعيشون بسلام، طالما أن الذاكرة مثقلة بصور لا ترحم. الحرب الأخرى كانت حاضرة بقوة هذا العام، عنينا الحرب الأكثر حداثة، حرب تموز يوليو 2006 التي حقق حولها شرائط وثائقية عدة وفيلم روائي. من الأفلام الوثائقية فيلم مي مصري"33 يوماً"، وفيه تواصل ميّ مشوارها التسجيلي في نبش القصص المهمشة وأبطالها الذين لا تلتصق بهم صفة الأبطال إلا في أفلامها. أما الفيلم الروائي ففيلم فيليب عرقتنجي"تحت القصف"الذي أثار فوزه في مهرجان دبي موجة احتجاجات كونه لا يستحق الجائزة بسبب ضعف البنية الدرامية الروائية، بين عوامل أخرى. سقطة أخرى عرفها المشهد السينمائي اللبناني هذا العام. أتت مزدوجة هذه المرة كونها تلامس سينمائية عقدت عليها آمال كثيرة بعد فيلمها الروائي الطويل الأول"معارك حب". المخرجة هي دانيال عربيد والفيلم هو"الرجل التائه"الذي لم يلق أي اصداء إيجابية إبان عرضه الى جانب فيلم نادين لبكي في"كان". إذاً يسدل العام 2007 ستاره على حركة سينمائية ناشطة تكسر الصمت الذي يخيم في البلاد، وتحاول عبثاً الخروج من أسر الماضي. من هنا السؤال: هل ستبقى الحرب الشغل الشاغل للسينمائيين أم أنهم سيستمعون الى درس نادين لبكي في السينما؟