عادة ما يكون الشعراء أو الروائيون أو المسرحيون الكبار ناثرين كباراً. فهم حين يكتبون عن الظواهر الثقافية وغير الثقافية، حين يراجعون كتاباً أو يكتبون عن حدث أو مشهد صادفهم، تتلألأ لغتهم بأحجار اللغة الكريمة، وبالأفكار العميقة التي تختزل فكرة الوجود الإنساني برمته. ليست هذه قاعدة لا شواذ لها، ولكن تاريخ الكتابة، في الثقافات كلها وفي الثقافة العربية كذلك، يمدنا بأمثلة بارزة ت. س. إليوت، إزرا باوند، غابرييل غارسيا ماركيز، كارلوس فوينتيس، أدونيس، محمود درويش ويجعل أيدينا تقع على ثروة من النثر والتعليقات والكتابات النقدية والتأملات ومراجعات الكتب التي تضيف إلى إرث أولئك الكتّاب الكبار، الذين أبدعوا في الشعر أو الرواية أو المسرح، بعضاً من أعمق الأفكار والصفحات المدهشة التي تغوص عميقاً في قلب التجربة البشرية، أو تفسر عظمة بعض الأعمال الأدبية، أو تقبض على بعض من الأفكار التي تستدعي التوقف عندها، والتي تتوارى في الوقت نفسه بعيداً من العقول اللاهية. في مقالة قصيرة قرأتها أخيراً للكاتب البيروفي الأميركي اللاتيني ماريو فارغاس يوسا، في كتاب صدر له أخيراً بالإنكليزية، عن دار نشر فيبر أند فيبر، بعنوان"على المحك: مقالات في الأدب والفن والسياسة"، عن رائعة الكاتب الأميركي إيرنست همنغواي"العجوز والبحر"التي مر على كتابتها ستة وخمسون عاماً، نقع على هذا النوع من النثر الرفيع، عالي المستوى الذي لا يقل عمقاً وإثارة للخيال عن الأعمال السردية الكبيرة التي كتبها يوسا عن الأقدار اللاتينية في زمن اصطدام المصائر والحكايات خلال القرن العشرين العاصف الممزق للبلاد والإمبراطوريات. المقالة المذكورة مدهشة في عمقها، وألمعيتها، وقدرتها على التقاط الجوهري في تجربة همنغواي، وفي التجربة الأدبية بعامة، وفي تجربة البشر جميعاً. إنها شديدة القصر، تذهب إلى الأساسي في رواية"العجوز والبحر"، إلى ما يقيم عميقاً في تلك الرواية القصيرة، المفرطة في اختزال عالمها، القائمة على تحويل الأحداث القليلة في بنيتها السردية إلى مجازات شديدة العمق لتأويل حياة البشر والوجود أيضاً. ومقالة يوسا تنحو النحو نفسه: البساطة في التعبير، والاختزال، وعدم الثرثرة، والغوص في الأعماق. ذلك هو النقد الذي نفتقده في ثقافتنا الراهنة، فالكتابة العربية، النقدية وغير النقدية، تسعى إلى الكثرة، إلى الفائض من الكلام. ويظن البعض منا أن الرواية التي تتكون من ستمئة صفحة أفضل بكثير من رواية قصيرة لا تتجاوز صفحاتها المئة، بغض النظر عن ألمعية الكتابة أو سماكتها، قدرتها على الوقوع على مجاز الوجود الإنساني أو غبائها ووقوعها في الثرثرة وافتقاد المعنى. الشيء نفسه نعثر عليه في حقول الكتابة كافة: في القصة، والمسرح، والسينما، والمسلسلات التلفزيونية، تبجيل الكم واحتقار الكيف، تحويل الكتابة إلى مخزن ضخم للعاديات بدلاً من الاحتفال بالحجارة الكريمة والذهب الخالص في الكتابة والإبداع. لهذا تذهب الجوائز إلى من حبروا أكبر عدد من الصفحات، وطالت قائمة كتبهم بحيث لم يعد بإمكاننا الوصول إلى نهاية تلك القوائم، أو قراءة سطر واحد من تلك الكتب الضخمة التي لا قيمة لها في حقل الإبداع الإنساني. ولهذا نكره الألمعية ونفضل الكتاب متوسطي الموهبة لأن الموهبة العميقة العبقرية خطرة تهدد استقرار العادة وتقلب السائد وتحل نظاماً جديداً محل العتيق القائم.