لم تمنع حمّى المونديال، وارتفاع درجة الحرارة من أن يتوجه جمهور غفير إلى"قاعة رضا سعيد"في جامعة دمشق، للقاء الروائي البيروفي ماريو بارغاس يوسا 70 سنة، في زيارة أولى له إلى سورية، بدعوة من معهد"ثرفانتس"في دمشق، فوجود صاحب"حفلة التيس"شخصياً مع القراء العرب، بدا حدثاً استثنائياً وساحراً، يشبه ما تفعله رواياته في ذاكرة القراء، خصوصاً أنه معروف جيداً، لدى شريحة واسعة من القراء، بعد ترجمة معظم أعماله إلى العربية عن الاسبانية مباشرة بفضل جهود مترجم بارع من طراز صالح علماني، ترجم أبرز رواياته مثل"دفاتر دون ريغوبيرتو"و"امتداح الخالة"و"حفلة التيس"و"من قتل بالومينو موليرو"و"الفردوس على الناصية الأخرى"، إضافة إلى كتابه النقدي المهم"رسائل إلى روائي شاب". ويعكف يوسا الآن على وضع اللمسات الأخيرة على روايته الجديدة"شيطنات الطفلة الخبيثة". تعدد أطياف شخصية ماريو بارغاس يوسا واهتماماته مرشح سابق لرئاسة البيرو، لا تمنع حصر انشغالاته الإبداعية في منطقتين إشكاليتين هما: العسف السياسي، والعسف الجسدي، وكأنه في مناوشته ديكتاتورية السلطة، وديكتاتورية الجسد، يختزل آلام الكائن البشري وهواجسه في الانعتاق مما يكوي روحه ويؤجل حضوره الإنساني الخلاق. ولطالما اعتبر قراء أن رواية"حفلة التيس"هي روايتهم الشخصية، في كشفها المريع لفظاعة الطغيان وتجلياته العميقة، خلال فضح شخصية طاغية مثل"رافائيل لونيداس تروخيليو"الذي حكم جمهورية الدومنيكان ما بين1930و1960، فشخصيات الرواية وأحداثها تدخل القارئ عنوة إلى جحيمها ومصائبها ورعبها وذعرها، وروائح شوارعها في تضاريس قلقة، مثلما تقوده في اللاوعي إلى استحضار ديكتاتوريات محلية مشابهة، أصابت روحه بالعطب ذاتة. الواقع والمتخيل في هذه الرواية المذهلة التي تختزل المدوّنات السابقة كلها مثل"خريف البطريرك"لغابرييل غارسيا ماركيز، والسيد الرئيس لميغيل استورياس، يمزج صاحب"البيت الأخضر"مواصفات المأساة الإغريقية بروح الرواية البوليسية، من دون أن يهمل الجحيم الفولكنري نسبة إلى فولكنر، في تفكيك البنى الزمنية ومزجها بشراسة في وعاء جمالي واحد. ويؤكد يوسا أن الواقع يتجاوز في هوله المتخيل، على خلفية الفترة التي عاينها عن كثب، قرابة ثمانية شهور في الدومينيكان، وكانت حصيلتها شهادات مروّعة عن حياة"تروخيليو"، هذا الطاغية الاستعراضي الذي يخبئ عينيه الوحشيتين وراء نظارة سوداء على الدوام:"كان خلال جولاته في البلاد، يقدم له البسطاء بناتهم العذراوات كهدايا، كما لو انهم يقدمونها إلى إله وثني، لم يكتف بمراقبة سلوك الجميع، وإنما راقب ضمائرهم وأحلامهم كذلك". وهذا الإفراط في"مديح القمع"بلور نصاً أخاذاً في فضح احتقار الديموقراطية وحقوق الإنسان، ليس في أميركا اللاتينية وحسب، إنما في معظم أنحاء الكرة الأرضية. هكذا تبدو الحكايات الخيالية، أقل وطأة مما هو معاش حقاً، ففي"حفلة التيس"اعتاد سمك القرش أن يفترس الأشخاص، وكان يذهب لانتظار المعتقلين."كان هناك ازدحام لسمك القرش، حتى انه عند اصطياده، وفتح بطنه، يتم العثور على أحذية، وأحزمة جلدية للضحايا". حكايات منتقاة من بين مئات الوثائق، على رغم أنها تشبه لعبة الشطرنج في مراوغتها وكثافة تركيزها، وهي تلهث كي تواكب ما حدث فعلاً من شناعات بشرية ونزوات. وانتقالاً إلى أعمال تعالج عسف الجسد، نكتشف كاتباً آخر يتوغل في متاهة مختلفة، متاهة اضطرام الجسد، واحتدام روح إيروسية حادة، لا تقل وطأة عما خبرناه في الضفاف الأخرى، حتى أن القارئ يصاب بالذهول وربما الصدمة، أمام مكاشفات الجسد وشهواته ومجونه، في إحالات إلى كتاب القرن الثامن عشر، ورسوم الانطباعيين، هؤلاء الذين سعوا إلى"تحطيم التعارض المفترض بين الجسد والروح". في"امتداح الخالة"، و"دفاتر دون ريغوبيرتو"، يتوغل صاحب"جائزة ثرفانتس"في المناطق المجهولة والمحرمة بمقاربات فرويدية، لاستجلاء أقصى هبات الحرية، واستعادة كيان الغريزة بصفتها جملة ثقافية معتبرة في تاريخ البشرية. في الندوة التي أقيمت في فضاء جامعة دمشق، تحدث ماريو بارغاس يوسا من موقع المبدع، عن أعماله ومواقفه السياسية، واعتبر أن أميركا فهمت أخيراً، بعد دعمها الطويل لحكومات الانقلابات العسكرية والديكتاتوريات، أن أفضل علاج للإرهاب هو مساندة الديموقراطيات والانتخابات الحرة، لأن ذلك أصلب وأمتن في بناء علاقات جيدة مع الشعوب الأخرى. وقال إن الأدب الحقيقي هو الذي يكشف هموم الناس ومشكلاتهم، بتقنيات جمالية عالية وإلا تحوّل إلى دعاوى ايديولوجية. وأضاف: أعتقد بأن المهمة الأساسية للمبدع، هي الدفاع عن الحريات، فمن دون هذه الحريات، يكون الإبداع مهدداً، وسوف يبقى الأدب خطراً على الأنظمة الديكتاتورية، فمحاكم التفتيش مثلاً كانت خلال ثلاثة قرون تمنع استيراد الروايات. وكرر قائلاً:"إن الأدب خطير على الطغاة، لأن الواقع متواضع مقابل ما نتخيله في الأدب، فهو يدعو إلى التمرد، وهذا ما جعل الأنظمة القمعية تخلق رقابات متشددة على الإبداع". أثر"ألف ليلة وليلة" وأشار إلى تأثره ب"ألف ليلة وليلة"وخصوصاً شخصية شهرزاد، وقال انه تعلم منها تقنية الحكايات المتوالدة، كما حيا فولكنر معتبراً إياه الأب الروحي لكل كتاب أميركا اللاتينية، من طريق الحبكة الصارمة وعناصر الإثارة والغموض في نسيج الرواية، وتذكّر حال الانبهار الذي أصابه أول مرة جراء قراءة أعماله، وكيفية بناء عالم روائي شديد التماسك والجاذبية، قبل أن يتعرف إلى أعمال جيمس جويس ومارسيل بروست وفرجينيا وولف، في عملية تراسل باتجاه واحد، فأدب أميركا اللاتينية كان متأثراً بالآداب الأوروبية، واليوم بعد صعود بورخيس وماركيز، صار التأثر متبادلاً بين القارتين. وأفرد وقتاً خاصاً لفلوبير باعتباره عبقرياً، خصوصاً في رسائله إلى حبيبته التي كتبها خلال خمسة أعوام، وهي تحتوي أفكاراً عميقة وصارمة ودقيقة، حول يوميات عمله على رواية"مدام بوفاري"، ونصح الأدباء الشباب الاستفادة من سيرة هذا الروائي العبقري الذي تمكن بقدرات ذاتية، تجاوز حدود بلاده بصبر وقناعة داخلية في كسر هذه الحدود، واختتم بقوله:"على الأديب الشاب أن يعمل كما عمل فلوبير في كتابة مؤلفاته العظيمة". ثم ألقى ماريو بارغاس يوسا محاضرة بعنوان"أدب أميركا اللاتينية"، قام خلالها بتجوال شخصي بين أعلام هذا الأدب الذي غزا العالم تحت مسمى الواقعية السحرية، مؤكداً على أن هذا الأدب كان أشبه بالجزر المعزولة، فقد كانت أميركا اللاتينية منقسمة على ذاتها، الأمر الذي انعكس على ابداعها، هذا الإبداع الذي انكفأ إلى محليته عقوداً طويلة، عدا أسماء قليلة تجاوزت الخرائط الضيقة مثل بابلو نيرودا وميغيل استورياس. وقال إن مغامرته الكبرى بدأت حين قرر تحقيق حلمه في مغادرة البيرو والاستقرار في باريس، وكانت هذه المدينة في حقبة الستينات من القرن العشرين عاصمة الثقافة العالمية بحق، وهذا ما كانت تؤكده نقاشاتنا في الجامعة،إذ كنا نتابع بشغف التيارات الفكرية الفرنسية،وخصوصاً كتابات سارتر،وكنت أحفظ بعض مقالاته غيباً، ما جعل أصدقائي يلقبونني"سارتر الصغير الشجاع". كانت الفكرة التي نتداولها آنذاك، هي أن الكاتب لن يصبح كاتباً إذا لم يعش في باريس ويختلط بثقافتها المتجددة. هكذا عشت سبع سنوات وسط صخب الحياة الباريسية، وحققت نفسي، كما تعلمت أموراً كثيرة، في مقدمها أن الكتابة تتطلب شغفاً وعناداً وعبوراً، كي تصبح مهنة للعيش، بتأثير فلوبير. وأضاف:"في باريس اكتشفت أدب أميركا اللاتينية، حيث كان يروج له، وربما كانت المحاضرة الموسوعية المؤثرة والعميقة التي ألقاها بورخيس في باريس هي التي فتحت الباب على مصراعيه أمام هذا الأدب المجهول، ثم كانت روايات الكوبي كاربانتييه التي بهرت الفرنسيين بروحها الأسطورية والفانتازية الخطوات الضائعة. وهنا اكتشفت إن قارتي المجهولة صار لها أدبها المعترف به، وإنني لن أكون كاتباً فرنسياً بوجود مشكلات مختلفة، وتبعه الأرجنتيني خولتازار في روايته المدهشة"لعبة الحجلة"ذات التجريبية اللافتة والمتاهات السريالية الفذة. وبعد فرنسا، اكتشفت أسبانيا هذا الأدب من طريق دار نشر صغيرة في لشبونة"سيس برال". كان مديرها شاعراً متحمساً لهذه التجارب الجديدة، فنشرت روايتي الأولى"المدينة والكلاب"، وقد حذفوا منها بعض جمل بدوافع رقابية، أيام حكم فرانكو، وفي طبعتها الثانية، أعيدت الجمل المحذوفة، فيما حرقه نسخها في ليما. هذه الدار الصغيرة كانت جسراً بين أدب أمريكا اللاتينية وأسبانيا، خصوصاً بعد الانفجار الذي أحدثته رواية غابرييل غارسيا ماركيز"مائة عام من العزلة". هذه الرواية التي أعادت صوغ الروح المحلية باصالة وشاعرية، وهي تمكنت ككل الروايات العظيمة من تحويل المحلية إلى فضاء كوني، بطريقة سرديتها وتخييلها العذب وتجسيدها لمناخات الكاريبي. فماركيز هو من وضع حجر الأساس في اعتراف أوروبا بأدب القارة المجهولة. وتساءل عن تفسير هذه الظاهرة، إذ كيف لقارة متخلفة ،تنتج الديكتاتوريات والانقلابات العسكرية باستمرار، أن تنتج أدباً عظيماً؟ وقال إن أعمال بورخيس وماركيز وخوان رولفو وأكتافيو باث،تقف اليوم في الصف الأول بين اعمال الكتاب العالميين، وأعاد الأمر إلى جملة أسباب، أبرزها أن هؤلاء الكتاب تجاوزوا عزلتهم الجغرافية بقراءة الثقافة العالمية جنباً إلى جنب مع التراث المحلي، في تجوال نهم بين ثقافات وفلسفات متعددة، تمتد من أوروبا فولكنر والفلسفة الألمانية ولغة الفايكنغ، إلى آداب الهند واليابان، وكأن الكتاب يتجولون في بيوتهم.وهكذا حين اكتشفتهم الثقافات الأخرى بدهشة، كانوا قد تمكنوا من إرساء قواعد صلبة، تقنية وبلاغية،ممتزجة بعمق في عناصر الثقافة المحلية.