أخطأ الكثيرون في فهم مبادرة السلام العربية، حتى أنه يمكن القول إن هذا الخطأ كان متعمداً في بعض الأحيان. لم تكن المبادرة مجرد خريطة طريق تقدم مقاربة تدريجية للوصول إلى توافق بين الإسرائيليين والفلسطينيين، كما أنها لم تكن تتطلب من الجانب الإسرائيلي القبول مسبقاً بأي شروط عربية أو فلسطينية. كذلك لم تضع المبادرة إطارا محددا لمفاوضات السلام غير ذلك المتضمن في"خريطة الطريق"التي تدّعي إسرائيل بأنها تدعمها دعماً كاملاً، ألا وهو العودة إلى حدود هدنة ما قبل 1967 كشرط أساسي للبدء بمفاوضات حول إعادة ترسيم هذه الحدود في حال تطلب الأمر أي تعديلات، وقيام عاصمة الدولة الفلسطينية في القدسالشرقية، وحل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين. لم يكن التفاوض حول هذه المسائل المحورية الثلاث شرطاً تفرّد السعوديون أو أعضاء جامعة الدول العربية بطرحه. ذلك لأن هذه المسائل بالذات تمثل الأسس المعترف بها دوليا لإطلاق مفاوضات السلام، حتى أن الرئيس بوش ووزيرة الخارجية كوندوليزا رايس أكدا بعزم أنه لا يمكن لإسرائيل المس بأي منها أو تعديلها منفردة. وفي شباط فبراير، عندما طلب أحد الصحافيين من رايس التعليق على التصريح الذي أدلى به رئيس الوزراء إيهود أولمرت حول عزم إسرائيل على ترسيم حدودها الدائمة من جانب واحد، ردّت وزيرة الخارجية الأميركية بالتأكيد أنه لا ينبغي لأحد أن يحاول مسبقاً ومن جانب واحد تحديد نتيجة اتفاقية السلام النهائية. وأضافت رايس أن الاقتراح الذي قدمه الرئيس بوش في رسالته الموجهة إلى شارون في 14 نيسان ابريل 2004 اشار الى ضرورة أن يأخذ اتفاق السلام النهائي في الاعتبار الحقائق الجديدة على الأرض التي تغيّرت منذ سنة 1967، وهو أمر لا يمكن أن تطبّقه إسرائيل أحادياً"بشكل استباقي ومحدّد سلفاً لأنها مسائل تدخل في صلب المفاوضات حول التسوية النهائية". وقد حرصت المبادرة العربية على ترك شروط اتفاق السلام المحدّدة الى طرفي النزاع، فأي شرط يسمح للطرفين بتسوية النزاع وعقد الاتفاق سيكون مقبولاً من جانب الجهة الراعية للمبادرة. والحقيقة هي أن ما يخشاه أصحاب المبادرة هو احتمال الإفراط في تصلب الفلسطينيين إزاء الإسرائيليين أكثر من الإفراط في التساهل معهم. لذا رأى القادة العرب طلب أولمرت عقد اجتماع"لتوضيح"بنود المبادرة العربية مناورة لتطبيع العلاقات مع الدول العربية كافة، من دون منح الفلسطينيين أي شيء في المقابل. ولم يكن تشكيكهم بنيات أولمرت في غير محلها، لا سيما أن هذا الأخير قال متبجّحاً في إحدى المقابلات العديدة التي أجراها قبل عيد الفصح عند اليهود، إنه لو نجح في عقد لقاء مع القادة العرب، ستكون خطوة مهمة في مجال اعتراف الدول العربية بدولة إسرائيل، وهو السبب الذي دفع بجامعة الدولة العربية إلى رد طلب أولمرت. من جهة أخرى، ان قبول إسرائيل بمبادرة جامعة الدول العربية لن يحد من قدرتها على حماية مصالحها الحيوية لدى تفاوضها مع الفلسطينيين. وبالفعل أكد المسؤولون السعوديون سنة 2002 على أن مبادرة السلام لا تستثني احتمال إدخال بعض التعديلات الطفيفة بتوافق الطرفين في ما يتعلق بالأراضي الواقعة على جانبي حدود ما قبل 1967، مراعاة لاعتبارات أمنية ولتمكين إسرائيل من إدخال عدد كبير من سكانها إلى المستوطنات المتاخمة للخط الأخضر السابق. وهذا يعني أن الفلسطينيين سيتخلون عما لا يزيد عن 2 في المئة من أراضيهم، مقابل تنازل إسرائيل عن المساحة نفسها من الجانب الآخر من الحدود. كذلك، فإن قيام عاصمة الدولة الفلسطينية في القدسالشرقية لن تضع حداً لسيطرة إسرائيل على جدار الفصل، والمدينة القديمة، والأحياء اليهودية في القدسالشرقية. وقد تم التأكيد على تلك التوضيحات المتعلقة بمبادرة السلام من قبل مسؤولين رفيعي المستوى في الإدارة الأميركية والمملكة العربية السعودية في 21 شباط 2002. إن التصريحات التي أدلى بها أولمرت، قبل عيد الفصح عند اليهود، والتي أكد فيها على أن إسرائيل لن تسمح"ولا حتى للاجئ فلسطيني واحد"بالعودة إلى دياره داخل الأراضي الإسرائيلية كانت قاسية ومجانية وغير مبررة. لكن أولمرت يعلم تماماً أن مبادرة جامعة الدول العربية تستوجب قبول إسرائيل بحل لمشكلة اللاجئين. وهو يعلم أيضا أن الجامعة رفضت سنة 2002 مساعي عدد من الدول العربية الهادفة إلى تضمين المبادرة الاعتراف ب"حق العودة"، وكررت رفضها هذا في المؤتمر الذي عقد في الرياض في شباط الفائت. إن إصرار أولمرت على حذف أي عبارة تشير إلى قرار الأممالمتحدة رقم 194 والذي لا يتضمن ذكر"حق العودة" من مبادرة السلام العربية لن يؤتي ثماره. فحتى الفلسطينيون الذين يقرون بضرورة ترحيل أغلبية اللاجئين إلى دولة فلسطين الجديدة لدى قيامها، لن يقبلوا أن تخلو المبادرة من الإشارة الى قرار الأممالمتحدة الذي يعترف، ولو بطريقة الاستدلال، بمسؤولية إسرائيل في تهجير الفلسطينيين من منازلهم خلال حرب 1948. لقد أثبت المؤرخون الإسرائيليون بما لا يحمل الشك صحة هذه المسؤولية، غير أن اعتراف إسرائيل بهذه المسؤولية - وإن رأت أنه من المستحيل السماح إلا لعدد رمزي من اللاجئين بالعودة إلى أراضيهم - مهم بالنسبة للفلسطينيين بقدر أهمية مطالبة اليهود بالاعتراف بالاضطهاد والقمع اللذين عانوا منهما في تاريخهم. لا وجود لأي مبرر لرفض إسرائيل مبادرة السلام العربية، وإن فوّت أولمرت هذه الفرصة لتطبيع العلاقات مع الدول العربية كافة، بعد أربعين عاما من الاحتلال، وانتفاضتين، ونهر الدماء الذي أهدر، والعذاب الذي عاناه الفلسطينيون والإسرائيليون على حد سواء، فسيكون التفسير الوحيد أن رئيس الوزراء الإسرائيلي مقتنع، شأنه شأن سلفيه في حزب"ليكود"شارون ونتانياهو، بأن تعثر عملية السلام سيمكن إسرائيل من متابعة توسعها في الضفة الغربية وسيخدم مصالحها أكثر من أي اتفاقية سلام. وسيتعيّن على الولاياتالمتحدة وشركائها في الرباعية الدولية تحمّل المسؤولية في حال استمروا في مساعدة ودعم هذا الجنون. * مدير المشروع الأميركي الشرق أوسطي، وأستاذ بحوث في برنامج السير جوزف هوتونغ للشرق الأوسط في كلية الدراسات الشرقية والإفريقية في جامعة لندن