أثناء اجتماعها الأخير برئيس وزراء اسرائيل ايهود اولمرت، قالت الوزيرة الاميركية كوندوليزا رايس، انها تنوي الاشتراك في المحادثات الفلسطينية - الاسرائيلية، نزولاً عند رغبة رئيسها جورج بوش. وأخبرته ان الوضع المتأزم في الشرق الأوسط يحتاج الى عملية تنفيس الاحتقان عن طريق تحقيق اتفاق دائم يمكن ان يستغله بوش كإنجاز تاريخي يختتم به حياته السياسية. وكانت رايس بهذا التشجيع تشير الى الفشل الذي مني به الرئيس كلينتون في محادثات"كامب ديفيد"، وكيف أن تصلب المتحاورين أضاع فرصة تاريخية يصعب تكرارها بعد وفاة ياسر عرفات. اولمرت كرر أمام رايس خطته للتفاوض وحددها بالتزام تطبيق مشروع"خريطة الطريق". وقال ان اسرائيل وحدها معنية بتحديد مستقبلها في المنطقة، اعتماداً على الذين أيدوا فكرة إقامة الدولتين مثل توني بلير وجاك شيراك وانغيلا ميركل، ثم أكد لها حرص حكومته على تطبيق المبادئ التي وضعها سلفه ارييل شارون كالانسحاب الى ما وراء خط جدار الفصل، وإبقاء القدس عاصمة موحدة لدولة اسرائيل، وعدم التنازل عن أي خيار أمني بما في ذلك الكتل الاستيطانية المركزية. قبل أن تغادر الوزيرة الأميركية اسرائيل فاجأها ايهود اولمرت بإعلان استعداده للتعاطي بجدية مع المبادرة السعودية التي أقرتها القمة العربية في بيروت سنة 2002. وأعرب عن أمله في أن تتولى القمة العربية المقبلة في الرياض 28 الجاري إدخال التغييرات المعتبرة نقطة انطلاق للمفاوضات. وتنص المبادرة العربية للسلام على تطبيع العلاقات بين اسرائيل والدول العربية في مقابل انسحاب اسرائيل التام من الأراضي العربية التي احتلتها سنة 1967 وإقامة دولة فلسطينية وتسوية مشكلة اللاجئين. وزيرة خارجية اسرائيل تسيبي ليفني حملت موافقة اولمرت الى"مؤتمر ايباك"في واشنطن، وطلبت من الدول العربية في كلمتها، ضرورة تطبيع العلاقات قبل الشروع في تحقيق السلام. وكانت بهذا الشرط ترسم لأصدقاء اسرائيل في الإدارة والكونغرس ووسائل الإعلام، الخطوط العريضة لمشروع دولة اليهود. وهي وسيلة متبعة لدى كل المسؤولين الاسرائيليين الذين درجوا على ربط مستقبل بلادهم بالموقف الرسمي المتأثر بتوجيهات"ايباك". ويستفاد من الطرح الذي اشترطته الوزيرة ليفني ان تبدأ الدول العربية تطبيع علاقاتها مع اسرائيل كمؤشر الى حسن النية وممارسة سياسة الانفراج. علماً بأن عملية التطبيع مع الدول العربية تأتي في المبادرة، كنتيجة لحل نهائي مع الفلسطينيين، وليس كمدخل للتفاوض. والملاحظ ان اسرائيل من خلال هذا المطلب، تسعى الى عزل الفلسطينيين عن حضانة الدول العربية، لأن تجريدهم من الغطاء الاقليمي يعرضهم للعزلة والاستفراد. من جهة أخرى، نشرت صحيفة"معاريف"خلاصة التقرير الذي قدمه في جلسة مغلقة لمجلس الوزراء، رئيس جهاز الاستخبارات العامة شاباك يوفال ديسكين. ويشير التقرير الى تنامي موجة التعاطف مع ايران و"حزب الله"بين فلسطينيي 1948، الأمر الذي يشكل خطراً استراتيجياً على الطابع اليهودي للدولة العبرية. وأوصى التقرير بضرورة رفع سقف المطالب من العرب في اسرائيل والتعاطي بصرامة مع الجهات المتطرفة. وتزامن صدور التقرير مع توزيع تقرير آخر أعده جهاز الاستخبارات الداخلية شين بيت يتحدث عن مئات من أعضاء حركة المقاومة الاسلامية حماس يتلقون تدريباتهم العسكرية في ايران. ويزعم التقرير ان عمليات التدريب على اطلاق الصواريخ تستغرق مدة طويلة، وان الأسلحة المهربة الى قطاع غزة لم تتوقف بدليل العثور آخر مرة على كميات بينها 31 طناً من المتفجرات. جميع هذه التقارير تعتبر مقدمة لزرع الغام سياسية في طريق التسوية يراد لها أن تعرقل مشروع التسوية الى حين اكتمال معالم الدولة اليهودية الصافية. والمعروف ان المشروع الصهيوني الأول بدأ بفكرة إقامة دولة علمانية ديموقراطية يتعايش فيها اليهود والعرب. وبعد مرور ربع قرن على إنشاء اسرائيل تبين للمسؤولين فيها ان دولتهم ستتحول الى مجتمع ثنائي القومية مع عشرين في المئة من الأقلية العربية الآخذة في الازدياد. وفي كتاب"مواطنو اسرائيل العرب"الصادر سنة 2003 قال المؤلف لورانس لوا، ان كل مواطن اسرائيلي من أصل خمسة هو اليوم عربي. وتوقع خلال ربع القرن القادم ان يصبح كل مواطن من أصل ثلاثة في اسرائيل، عربياً. وقال ان عرب 1948 ارتفع تعدادهم الى مليون ومئتي ألف نسمة، أي ما يعادل عشرين في المئة من سكان اسرائيل. ولم يكن زعماء اسرائيل بحاجة الى هذا الانذار كي يباشروا في تغيير هوية دولتهم بحيث انهم تخلوا عن فكرة الدمج العلماني، وقرروا مواجهة التغيير الديموغرافي بإنشاء دولة يهودية. لذلك اعتبروا العرب مجرد طابور خامس، لا يحق لهم التملك أو المطالبة بحقوقهم المتوارثة. وفي ضوء هذا التغيير صدر قانون التجمع العائلي الذي يسمح لكل مواطن يهودي بالانتقال الى اسرائيل، في حين حرم عرب 1948 من هذا الامتياز. سنة 2005 وجه الصحافي الأميركي بنيامين شفارتس صيحة تحذير في مجلة"اتلانتيك"تحت عنوان: هل تبقى اسرائيل موجودة بعد مئة سنة؟ خلاصة ما ذكره بنيامين في مقالته ان الأجيال المقبلة من الفلسطينيين لن تقبل الاتفاقات التي سيوقع عليها قادتهم. لذلك حرص زعماء اسرائيل على معالجة المسائل الجوهرية مثل التمدد الديموغرافي وحق العودة والاعتراف بحدود اسرائيل الاقليمية. واستند ارييل شارون الى هذا التحذير ليسرع بناء جدار الفصل الذي يمتد على مساحة 767 كيلومترا بهدف فصل الأراضي الفلسطينية عن الأراضي الاسرائيلية. وكان من الطبيعي ان يؤدي هذا العمل الى عزل 59 ألف فلسطيني من سكان الضفة الغربية، اضافة الى عزل سكان القدسالشرقية وضم 61 تجمعاً فلسطينياً داخل الجدار منها 21 تجمعا في مناطق جنين وطولكرم وقلقيلية. عندما قرأ افيغدور ليبرمان، رئيس حركة"إسرائيل بيتنا"، تحذير مجلة"اتلانتيك"، حذر هو الآخر من الخراب الذي ينتظر اسرائيل بعد مدة لا تتعدى العشرين سنة. وعقد مؤتمراً صحافياً طرح خلاله الحل الذي يرتأيه وخلاصته: رسم خطوط جديدة لدولة يهودية تضم كتلاً استيطانية خالية من العرب، يقوم إلى جانبها كيان فلسطيني يضم أيضاً غالبية العرب في إسرائيل. وفي هذا الإطار لن يبقى في إسرائيل سوى العرب الذين يعترفون بإسرائيل كدولة صهيونية يعبرون عن الولاء لها بخدمة العلم. ومع أن ليبرمان كان يمثل التيار المتطرف في المعارضة، إلا أن ضمه الى الحكومة أعطى أولمرت حجة إضافية لتطبيق مشروع شارون. أي المشروع الذي يبلور حدود الدولة اليهودية عبر جدار الفصل، ويلغي اسس الدولة الفلسطينية عن طريق ضم أراضي أغوار نهر الأردن. ويرى الخبير خليل تفكنجي، رئيس دائرة الخرائط في القدس، أن ضم الأغوار حقق لإسرائيل أهدافاً عدة بينها: منع التواصل الجغرافي بين الضفة والأردن، وحرمان الدولة الفلسطينية المزمع انشاؤها، من التوسع العمراني، وحرمان سكان هذه الدولة من حوض المياه الجوفي الشرقي. في ضوء هذه المتغيرات المفروضة على الفلسطينيين، هل يمكن أن تقبل إسرائيل بالمبادرة السعودية قبل استكمال مشروعها الهادف إلى اقامة دولة يهودية صافية؟ في كتابه"الجدار الحديدي"يثبت المؤلف آفي شلايم أن اسرائيل كانت تقف وراء كل محاولات تفشيل مبادرات السلام، على اعتبار أن مشروعها الحدودي والديموغرافي لم يكتمل بعد. وهذا ما لمح إليه أمين عام الجامعة العربية عمرو موسى في حديثه الى"الحياة"عندما قال:"إسرائيل تحاول دائماً تطبيق سياسة فرض الأمر الواقع. وهي تعلن قبولها للمبادرة العربية إذا حذفنا منها عنصرين: الحدود واللاجئين. هذه رسالة سلبية تماماً، لأنها تستبعد موضوع الانسحاب ومسألة اللاجئين وقضية القدس". ويلتقي فاروق الشرع مع عمرو موسى في شكوكه تجاه نيات أولمرت من عملية السلام. وهو يقول إن ما يطرحه من شروط تتعلق بتعديل القرارات المرتبطة بالحدود واللاجئين، يهدف الى تبرئة إسرائيل من رفض المبادرة العربية. أي المبادرة التي صيغت من قرارات الأممالمتحدة ومن النصوص المعتمدة على الشرعية الدولية. والثابت أن إسرائيل تريد اعتراف الدول بجدار الفصل كحدود نهائية وليس بحدود 1967، متذرعة بعامل الغموض الذي وفره لها القرار 242. كما تريد إلغاء قرار حق العودة بحجة أن عودة اللاجئين تشكل تهديداً للغالبية اليهودية. ومعنى هذا أن جوهر النزاع في نظر إسرائيل لا يزال محصوراً في حق العودة ومستقبل القدس وترسيم حدود الدولة الفلسطينية والانسحاب من الجولان والضفة وغزةولبنان. لاحظ الرئيس كلينتون في مؤتمر"كامب ديفيد"أن محمود عباس كان يركز في نقاشه على مبدأ حق العودة، والتفت نحوه الرئيس الأميركي ليسأله: وماذا يعطي الفلسطينيون من ضمانات كي يقبل ايهود باراك تطبيق مبدأ يضيف إلى مشاكله الداخلية مشكلة خارجية؟ وتظاهر ابو مازن بأنه لم يفهم الغرض السياسي من وراء طلب الضمانات، ثم كرر الاستيضاح. وأجاب كلينتون: أنت تطلب من باراك القفز الى الوادي بعد تطمينه الى متانة الحبل المطاطي المشدود إلى خصره. وهو يطلب منك ضمانات عملية بأن الحبل لن ينقطع، وسيمنعه من السقوط في الهاوية. ثم توقف كلينتون ليزيد: لا يمكنك أن تطلب من الإسرائيليين القبول بمبدأ العودة لأنهم يرون في تطبيقه تهديداً لوجودهم. يجب أن تعرض عليهم ضمانات محددة لئلا يتحول مبدأ العودة إلى تهديد. وفهم"أبو مازن"أن كلينتون كان يهدف من وراء المثل الذي أعطاه، الى الحصول على ضمانات بأن اللاجئين لن يغادروا مخيماتهم في لبنان وسورية والأردن! وفجأة توقف النقاش مع ابو مازن ليستأنف مع ياسر عرفات. * كاتب وصحافي لبناني