بعد إقامة السلطة الفلسطينية في العام 1994 جاءت إعادة تشكيل النظام السياسي الفلسطيني لتزيد من تشوه بنية هذا النظام بمزيد من تمحوره وتركيز الصلاحيات بيد قائد فرد، وبذلك تم التأسيس لسلطة أبوية شمولية سقفها الاتفاقيات السياسية والاقتصادية والأمنية الموقعة مع دولة الاحتلال، وتغيب دور المؤسسات بدءاً من صناعة القرار، مروراً بالإشراف على تطبيقاته وصولاً الى المحاسبة عليه وتهمش إلى حد كبير دور مؤسسات العمل الأهلي المنظمات غير الحكومية، التي كان يراهن عليها أن تكون شريكاً للسلطة الوليدة في تنمية مستدامة للاقتصاد والمجتمع الفلسطيني ككل ودمقرطته وتعزيز صموده بمواجهة مشكلات الفقر والتهميش ومحاربة التمييز على أساس الجنس وتوفير أنظمة حماية مجتمعية للفئات المحتاجة وتحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية وتنظيم وتكامل دور وقدرات أفراد المجتمع ضمن أجندة العملية الوطنية الفلسطينية للتخلص من الاحتلال الإسرائيلي، انطلاقاً من خبرتها الأكثر عمقاً من خبرة مؤسسات السلطة الوليدة في تلمس الاحتياجات الفعلية للمجتمع الفلسطيني في الضفة والقدس وقطاع غزة. لقد افتقد عمل مؤسسات السلطة الفلسطينية وما يزال الى الشفافية، والأهداف الواضحة على مختلف الأصعدة السياسية والتنموية البشرية الاقتصادية والاجتماعية، وانتفاء المساءلة والمحاسبة وتكافؤ الفرص، ما منع واقعياً بلورة خطط وطنية شاملة تأخذ بالأولويات وتلبي الاحتياجات وتوفر أرضية لمشاركة المجتمع الأهلي الفلسطيني بشكل فاعل ومتوازن. ولم تغير الانتخابات التشريعية الأخيرة من واقع حال مؤسسات السلطة الفلسطينية، لأن نتائجها جاءت افرازاً لأزمة، وكرست صراع الاحتكارية الثنائية "فتح"و"حماس"، وفجر ذلك صراعاً دموياً بين طرفيها، اللذين توهما بإمكان حسم الصراع، وبقي هذا الوهم يحكم علاقتهما إلى أن جاء اتفاق الحركتين في مكة ليفتح الطريق أمام تشكيل حكومة وحدة وطنية، أنهت الاحتكار جزئياً، ومن المأمول أن تضع ضمن أولياتها اصلاح مؤسسات السلطة خطوة على طريق إعادة بناء وتطوير وتفعيل مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية. بالعودة الى السياق التاريخي المختلف لنشوء منظمات المجتمع الأهلي الفلسطيني عن سياق نشوء كل مثيلاتها في المجتمعات الأخرى، نجد أنها ولدت في ظل وجود سلطة احتلال تتناقض معها وطنياً، لذلك طغى على عملها الدفاع عن الهوية الوطنية وتقديم الهم السياسي الوطني العام كأولوية تتداخل مع النضال الاجتماعي وتغلفه. وأمام الوضع الناشئ بعد قيام السلطة الفلسطينية وجدت مؤسسات ومنظمات العمل الأهلي الفلسطيني نفسها أمام تحدي إعادة انتاج وقولبة نفسها مجتمعياً، ضمن الحيّز الضيق المتاح للمجتمع الفلسطيني لتنظيم نفسه بشكل مستقل، بعيداً عن سطوة الاحتلال والاتفاقات الموقعة معه، لإيجاد بنية مؤسسية تنسجم مع هويتها المجتمعية والدور المناط بها ضمن المحيط الاجتماعي الذي تعمل فيه وصولاً الى بنية داخلية ديموقراطية منفتحة، تتجاور وتتكاتف مع مؤسسات السلطة الفلسطينية في الفترة الانتقالية لبناء مؤسسات الدولة الفلسطينية المنشودة، انطلاقاً من تجاوز موروث اجتماعي واقتصادي هش بفعل ممارسات وسياسات الاحتلال الإسرائيلي. لكن العلاقة بين مؤسسات السلطة ومؤسسات المجتمع الأهلي الفلسطيني غلب عليها طابع التناقض في الأهداف والتوجهات العامة والتنافس على التمويل الخارجي باشتراطاته السياسية المعروفة التي تؤثر حكماً على برامج عمل وتوجهات هذه المؤسسات التي لا تستطيع في الحالة الفلسطينية الموصوفة أن تبتعد كثيراً عن الهم الوطني العام، وهو ما أدى في نهاية المطاف الى فقدان منظمات المجتمع الأهلي إمكان لعب دور في إعادة التوازن بين السلطة الأبوية الشمولية الناشئة والمجتمع الذي تتقاسم السلطة الفلسطينية السيطرة عليه مع الاحتلال، بل وأكثر من ذلك انخراط غالبية منظمات المجتمع الأهلي في منظومة الفساد التي نمت بشكل غير مسبوق بعد قيام السلطة الفلسطينية وأخطرها الفساد السياسي، واثرت على قيم المجتمع الفلسطيني بحيث باتت فئات اجتماعية واسعة تستمرئ العلاقة الزبائنية النفعية المباشرة بين المجتمع ومؤسسات السلطة ومنظمات المجتمع الأهلي الفلسطيني، وأصبح دافع الولاء عندها المحسوبية والاستزلام والاسترزاق والانتفاع من خدمات مؤسسات السلطة والمجتمع الأهلي، بعيداً عن البرامج والمواقف السياسية للجهات التي تقف خلفها والممولة لها، وفساد القائمين عليها ونهب المال العام والاثراء غير المشروع وتبلور جهات نافذة ومسيطرة، مصالحها مبنية على تعميق وشائج التبعية للاقتصاد الإسرائيلي. والسؤال اليوم، بعد أن رأت النور حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية، هل ستنجح هذه الحكومة في تنفيذ برنامج اصلاح شامل لمؤسسات السلطة وتصويب العلاقة بين هذه المؤسسات ومؤسسات المجتمع الأهلي الفلسطيني؟ والجواب المنطقي على ذلك هو نعم. فرص النجاح مضمونة، إذا توفرت الإرادة والعزم في مكافحة الفساد ومحاسبة الفاسدين، جنباً الى جنب مع تغيير نظرة بعض القوى الفلسطينية نحو العمل الأهلي الذي حولته الى دكاكين تسوق سياساتها الفئوية الضيقة، ما ألحق ضرراً كبيراً بتنظيم كل طاقات المجتمع الفلسطيني في الوطن والشتات خدمة للعملية الوطنية التحررية الفلسطينية. * كاتب فلسطيني