تواجه الساحة الفلسطينية، عدداً من الاستحقاقات السياسية التي تتعلق بمستقبل العملية التفاوضية، والشكل النهائي الذي سيتخذه الكيان الفلسطيني الناشىء، والتجليات الجديدة التي ستتمظهر بها حركة التحرر الفلسطينية في صراعها ضد المشروع الصهيوني. ويبرز من بين هذه الاستحقاقات الشكل الجديد الذي ستعبّر من خلاله حركة التحرر الفلسطينية عن ذاتها، بالنظر الى ارتباط ذلك بالعوامل الذاتية - الداخلية للحركة السياسية للشعب الفلسطيني، وإن كان هذا الامر يتأثر، ايضاً، بالعوامل الموضوعية - الخارجية. ونظراً الى التداخل والترابط بين بعدي التحرير والبناء في الظروف الفلسطينية - الاستثنائية، فان ثمة قلقاً مشروعاً حول مستقبل العمل الفلسطيني، يسود في الاوساط السياسية والشعبية الفلسطينية خصوصاً والعربية، بما ينطوي عليه هذا القلق من تساؤلات حول مرحلة ما بعد ياسر عرفات، وحول قضايا تداول السلطة، ومسألة الديموقراطية ومن ثم الاطار القانوني والمؤسسي الذي ينظم الحياة السياسية الفلسطينية. وما يهمنا في سياق هذا المقال المساهمة في هذا النقاش، في هذه المرحلة الانتقالية - التاريخية التي تمر بها الساحة الفلسطينية، المليئة بالتعقيدات والالتباسات، انطلاقاً من وعي حقيقة اساسية وهي ان الاشكال السياسية القائمة مهما كان خطابها استهلك دورها وتآكلت شرعيتها، وباتت تفتقد القدرة على تلبية متطلبات تجديد العمل الوطني الفلسطيني. وحتى تستقيم مناقشتنا لهذه القضية لا بد من اخذ المسائل المهمة التالية في الاعتبار: 1- من ميزات العمل الوطني الفلسطيني، هذا التمازج بين مشروع الثورة ومشروع الكيان، ولكن، لاسباب ذاتية وموضوعية، طغى مشروع الكيان على مشروع الثورة وطبعها بطابعه. ساهم في ذلك، تشتت الشعب الفلسطيني، ووجود الثورة في مناطق اللجوء، وطبيعة القيادات الفلسطينية، وضغط الواقع الرسمي العربي على الثورة الفلسطينية الى درجة جعلها تتماثل معه. ولما كان مستوى الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في الاقطار العربية لم يصل الى حد تبني نظام سياسي يقوم على اساس تداول السلطة سلمياً وديموقراطياً، فان الوضع الفلسطيني لم يشذ عن هذه القاعدة، حتى ان مختلف التنظيمات ومنها اليسارية والديموقراطية، العاملة في الساحة الفلسطينية تسري عليها القاعدة نفسها. فالقيادات الفلسطينية كلها أمد الله في عمرها ما زالت تتربع على "عرش السلطة" في تنظيماتها، منذ اكثر من ربع قرن من النضال، على رغم تغيير بنية تنظيماتها، وعلى رغم تغير الاوضاع السياسية والظروف المحيطة، وعلى رغم الانحسار الحاصل في شرعيتها وامكانياتها، ودورها. وللحق فان الحالة الاستثنائية الوحيدة تمثلت في تقديم المرحوم احمد الشقيري مؤسسة م.ت.ف. استقالته من رئاسة اللجنة التنفيذية، وحتى هذه جاءت نتيجة معطيات وظروف ضاغطة ليست موضوع نقاشنا هنا. 2- استطاع الرئيس ياسر عرفات ان يماهي بين حركة "فتح" وبين م.ت.ف. فقد وحّد في شخصه قيادة المنظمتين، ساعدته في ذلك طبيعة حركة "فتح" التي انطلقت باعتبارها حركة تحرر وطني للشعب الفلسطيني وليست مجرد تنظيم حزبي - ايديولوجي. وهكذا اصبحت قيادة "فتح" هي قيادة م.ت.ف. وتجسّد ذلك في اعتبارها لذاتها قيادة للكيان الفلسطيني. واستطاع عرفات، بفضل ديناميته العالية وحضوره السياسي المتميز وشخصيته "الكاريزمية"، ان يصبح رمزاً للنضال الفلسطيني والقضية الفلسطينية، وهذا يحسب له كما يحسب عليه من نواح اخرى. فبقدر ما كان لهذه الشخصية الفريدة من فضل في لمّ شتات الشعب الفلسطيني واستنهاضه وقيادة نضاله في ظروف صعبة واستثنائية، بقدر ما انها تتحمل مسؤولية ضعف الطابع المؤسسي القانوني - الديموقراطي للعمل الفلسطيني، وبالتالي بروز ظاهرة الفردية وعبادة الشخصية على حساب القضية الوطنية. ولم يكن ياسر عرفات، كما قدمنا نسيج وحده، اذ كان المرحوم الحاج أمين الحسيني الزعيم الفلسطيني الاوحد في الثلاثينات والاربعينات، وكان يحظى على رغم خصوماته بإجماع الشعب الفلسطيني وقواه السياسية. وإذا تجاوزنا هذه الرؤية التاريخية التي تعكس مستوى التطور المجتمعي والسياسي والثقافي للشعب الفلسطيني، فان الواقع الراهن يدلنا الى ان عرفات ليس وحده من يصادر او يغيب الأطر والمؤسسات بشخصه فالقيادات الفلسطينية جميعها تقوم بذلك واحياناً بشكل اكثر فجاجة وبؤساً، لكن مسؤولية عرفات اكبر لانه ليس مسؤولاً عن فصيل معين فحسب وإنما هو مسؤول عن مجمل مسارات العمل الفلسطيني. - في الفترة الاولى من انطلاقة العمل الوطني الفلسطيني، ساد الاعتقاد طويلاً بأن الظروف الخاصة والصعبة التي يرزح تحتها الفلسطينيون الاحتلال - اللجوء - الخضوع لانظمة سياسية وقانونية مختلفة تضعف من إمكانية ايجاد وسائل عمل ومؤسسات تعتمد الاساليب الديموقراطية، وتمّ الترويج في حينه لمصطلح "الشرعية الثورية" وصنوها "نظام الكوتا" المحاصصة بين الفصائل. ونجم عن اعتماد هذا المبدأ في العلاقات والأطر الفلسطينية الخضوع لمجمل مفاعيله السلبية، قاد ذلك ايضاً الى اضعاف الثقافة الديموقراطية في الساحة الفلسطينية، فسرعان ما التهمت مؤسسات "الشرعية الثورية" السلطوية الفوقية ومؤسسات المجتمع الاهلي التي كانت تنمو وتزدهر اتحادات الطلاب والعمال والمرأة والكتاب مثلاً ولم تتح لها إمكانية التطور للتعبير عن ذاتها ولرفد مؤسسات الثورة بامكانيات حقيقية، وباتت الثورة الفلسطينية بديلاً من الشعب فهي التي تعينه بدل من ان تعيش هي من معين الشعب. وهذا المنطق خلق سلسلة متوالية من المشوهات أحاطت بالعمل الوطني الفلسطيني، فالشعب يقبع تحت وصاية وهيمنة الفصائل، والفصائل تحت وصاية وهيمنة الفصيل الاكبر، والفصيل الاكبر يهيمن عليه القائد الاكبر، وهذه هي طبيعة الامور. وعندما أتيح المجال للفلسطينيين في الاراضي المحتلة أواخر 1987 للتعبير عن ذاتهم في انتفاضة شعبية عفوية بمعظم مظاهرها، انتظمت فعالياتها تحت ادارة "اللجان الشعبية"، لم تستطع هذه الاطر مواصلة الارتقاء والتطور، بسبب التخوف المبالغ به لدى الفصائل الرسمية من هذه الظاهرة الشعبية الوليدة، ما ادى الى انكفائها لمصلحة صيغة "القيادة الموحدة" التي عكست وصاية الفصائل على الانتفاضة. ثم عندما دخلت السلطة الفلسطينية بمؤسساتها وكوادرها الى الضفة والقطاع، كانت هاتان منطقتان تعجان بمؤسسات المجتمع الاهلي التي ازدهرت من خلال مبادرات شعبية في مرحلة الانتفاضة، وبفضل الدعم والتعاطف الدوليين، لكن هذه المؤسسات والمبادرات التي تشكل قاعدة شعبية أساسية لأي نظام يسعى لإنجاز مهمات التحرر الوطني والديموقراطي سرعان ما جرى العمل على إضعافها، بفضل النمو السرطاني والمرضي للاجهزة الامنية، وبسبب طريقة ادارة السلطة لعلاقاتها مع قوى المجتمع الفلسطيني. وما حصل ويحصل في الداخل الاراضي المحتلة، حصل ويحصل في الخارج مناطق اللجوء، حيث ثمة إجماع عجيب بين القيادات الفلسطينية على مختلف تلاوينها السياسية الظاهرة، على مصادرة الرأي في المجتمع الفلسطيني والوصاية عليه على قاعدة "من ليس معي فهو ضدي"، وحتى المنظمات الشعبية التي كانت معيناً خصباً لاستنهاض الساحة الفلسطينية، وتنظيم قوى المجتمع الفلسطيني جرى العمل مباشرة او مداورة على اضعافها ومصادرة استقلالها، حتى أضحت مجرد يافطات ليست لها فاعلية لا في تنظيم الفئات التي تدخل في نطاقها ولا في القيام بالمهام المنوطة بها. - اخيراً، ننتقل للحديث عن بيت القصيد، وهو بيت الفلسطينيين، اي م.ت.ف.، الكيان الوطني والمعنوي للفلسطينيين والمعبّر عن وحدتهم، فقد اصبحت هذه المنظمة او كادت في حكم الغائب، وهذا ينطبق على الإطارات والمؤسسات السياسية والاجتماعية والثقافية. منظمة التي جرى تغييبها او تهميشها بمحض قرار فردي ذاتي يتحمل مسؤوليته الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات شخصياً بسبب خياراته السياسية وبسبب طريقة عمله وتفرده في اتخاذ القرارات المصيرية الكبرى. في مرحلة الشعب الفلسطيني فيها أحوج الى هذه المؤسسات والاطارات بعد التحوّل الذي حصل نتيجة اتفاقات أوسلو بمخاطرها الكبيرة وآثارها السلبية، وبنتيجة انتقال ثقل العمل الفلسطيني ومركز قيادته الى الداخل، وذلك لتعزيز وحدته، والحفاظ على منجزاته وادارة نضاله لانجاز اهدافه الوطنية. وفي هذا المجال لا بد من القول بكل وضوح بانه اذا كان الرئيس ياسر عرفات يتحمل مسؤولية القيادة التاريخية للعمل الوطني الفلسطيني، وقراراته المصيرية طوال المرحلة السابقة، فهو بالتأكيد لا يتحمل فقط مسؤولية الانجازات التي تحققت، وإنما يتحمل ايضاً مسؤولية الاخفاقات والإنكسارات التي مردها الى العامل الذاتي التي حصلت. وعرفات من موقعه هذا هو المسؤول في هذه المرحلة عن اعادة تصويب اتجاهات الساحة الفلسطينية من النواحي السياسية والمؤسسية والادارية طالما انه لم يوجد الشخص ولا الجهة التي تستطيع تحقيق ذلك طوال المرحلة السابقة، فهو الوحيد الذي يملك سلطة اتخاذ القرارات التي تمكّن من تدارك المخاطر السياسية الراهنة، واعادة بناء الساحة الوطنية على أسس سليمة وطنية وديموقراطية، باعتبار انه يحتكر سلطة اتخاذ القرار. واذا كان صحيحاً القول بأن عرفات هو مركز التوازن في الساحة الفلسطينية، بسبب دوره التاريخي وقيمته الرمزية، فانه من الصحيح القول ايضاً بان الوضع من الخطورة بحيث يستدعي جميع المخاوف من حصول فراغ والوقوع في المجهول بكل التداعيات المعروفة وغير المعروفة التي قد تنجم عن ذلك، خصوصاً بعد غياب قيادات تاريخية في حركة "فتح" ابو جهاد، ابو اياد، ابو السعيد وفي ظل هذا التهميش لقيادات هذه الحركة، التي تعتبر كبرى المنظمات الفلسطينية، لذلك فان بحث هذا الموضوع على أعلى المستويات في هذه المرحلة هو اكثر من مطلوب، وتتحمل القيادات الفلسطينية جميعها بكل تلاوينها وعلى رأسها ياسر عرفات مسؤولية الاعداد للمرحلة القادمة، حيث لا بد من تهيئة الاوضاع والنفوس للاعداد لهذه المرحلة التي تتطلب: 1- الشروع بمراجعة سياسية نقدية جريئة لكل ما جرى ويجري في الساحة الفلسطينية، وفي مختلف المجالات، لاعادة بناء العمل الوطني الفلسطيني باطاراته ومؤسساته واشكال عمله وعلاقاته. 2 - الاتجاه نحو تكريس قيادة جماعية للعمل الفلسطيني على قاعدة التعددية والعلاقات الديموقراطية. 3 - إحياء وتفعيل مؤسسات م. ت. ف. والاتحادات والمنظمات الشعبية باعتبارها مؤسسات جامعة للشعب الفلسطيني. 4 - القضاء على مظاهر الفساد والمحسوبية وتكريس احترام القوانين والنظم والمؤسسات. 5 - رعاية كادرات المجتمع الاهلي الاحزاب والمنظمات الشعبية والنقابات والجمعيات والنوادي واحترام مؤسساته وصيانة استقلاليته. 6 - تصويب العلاقات الفلسطينية - العربية، تحديداً مع الدول المضيفة. ان وعينا لحساسية هذا الموضوع ولحساسية الوضع الفلسطيني وحجم المخاطر التي تواجه الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية لا يجب ان تغيّب عن أذهاننا الرؤية القديمة التي تضع مصلحة الوطن والشعب لا المصالح الشخصية او الفصائلية الأنانية نصب أعينها، لان هذه الرؤية النقدية المستقلة هي التي يمكن ان تجنبنا المزيد من الوقوع في المخاطر وهي التي يمكن ان تساهم في عملية التغيير والتطوير الديموقراطي، فقد آن الأوان لإيجاد صوت جديد ومسموع في الساحة الفلسطينية يتمثل مصالح الشعب الفلسطيني بشكل نزيه وحرّ، ويؤكد بان هذا الشعب الصابر والمعطاء بات من النضج بحيث انه قادر على تلمس طريقه والتعبير عن ذاته وصناعة مستقبله ونقض الاوصياء عليه من هذا الاتجاه او ذاك، وصولاً الى اعادة بناء حركته الوطنية وكيانه السياسي كي يواصل نضاله وكي يتمكن من تحقيق كامل اهدافه وطموحاته.