Mushtaq Hussain Khan ed.. State Formation in Palestine: Viability and governance during a social transformation. تشكّل الدولة في فلسطين: إمكانية البقاء والحاكمية إبان تحول إجتماعي. Routledge, London. 2004. 249 pages. حصيلة عشر سنوات من أوسلو تقع بين دفتي هذا الكتاب. زاوية النظر فيه مهمة وهي تحليل فشل أوسلو وما إذا كان هذا يعود إلى عدم نجاح الفلسطينيين في بناء وإدارة مؤسسات دولتية تليق بمسار إنشاء دولة، أم إلى بنيوية الحل نفسه وإشتراطاته غير الممكنة التحقق. في الأدبيات الصادرة في السنوات الأخيرة، كما في التراشق السياسي بين الطرفين، تتجادل وجهتا النظر هاتان، وتقسمان التحليلات إلى معسكرين. وجهة النظر الأميركية الرسمية وحليفتها الإسرائيلية تعزوان الفشل إلى الفلسطينيين، فشل مؤسسات و"إرهاب" وغياب الرغبة والإرادة لدى القيادات الفلسطينية في المضي نحو تنفيذ أوسلو وتفريعاته. وجهة النظر الفلسطينية والعربية والغربية المؤيدة تقول العكس: ما كان بالإمكان إنجاح أوسلو وقائمة شروطه الإسرائيلية التي تظل تتناسل بلا توقف، بما يفرّغ أي تطبيق فلسطيني جزئي من أية فعالية أو أهمية. في قلب تلك الشروط قصة أمن إسرائيل وربطها بكل رصاصة تنطلق من هنا أو هناك. ووراء تلك الشروط كان سرطان الاستيطان قد استمر يأكل من بقايا اللحم الحي للضفة الغربية خلال سنوات أوسلو، فشرذمها، ما أطاح عملياً بالحل النهائي لأوسلو نفسه، بطريقة التفافية. المساهمون في هذا الكتاب الرصين وغير المؤدلج يرصدون بأكاديمية باردة كيف حوصرت البنى الناشئة للكيانية الفلسطينية تحت إطار أوسلو بالطرق المسدودة من كل جانب، بحيث كانت مديات النمو قصيرة لا تتيح أي تطور أو نضج طبيعي. هيمنة القوة المحتلة على فضاء تلك الكيانية وتدخلها المستمر في كل جزئياتها، عن قرب أم بعد، عطل إحتمالات النجاح الضئيلة أصلاً. لكن الكتاب لا يعتذر عن الفلسطينيين في ذات الوقت ولا يبرئهم أو يتغاضى عن الأخطاء الجسيمة والفادحة. يشير إليها ويعطيها الحجم الذي تستحق، بيد أن خط التحليل الرئيس يظل ثابتاً وهو أنه أياً ما كانت خطايا الفلسطينيين فساداً وديكتاتورية وشخصنة فإن البنية العامة لأوسلو وبقاء الهيمنة الاحتلالية هي الفاعل الأهم وهي ما أفشل المشروع. مشتاق حسين خان، محرر الكتاب وأستاذ الاقتصاد والعميد المشارك لكلية القانون والعلوم الإجتماعية في جامعة سواس في لندن، كتب، أو ساهم في كتابة، أهم ما تضمنه الكتاب من ناحية نظرية الفصول الثلاثة الأولى. في تلك الفصول أصّل الأطروحة المركزية في الكتاب والتي تقول إنه في ظروف التحول الإجتماعي الدقيقة والإنعطافية التي تمر بها الدول النامية، خاصة في سياق حالات التحول من وضع إحتلال عسكري إلى وضع عادي، فإن معيار "الحاكمية الصالحة"good governanc ليس المعيار الموضوعي والعلمي الذي يمكن به قياس أو تقييم أو محاسبة آليات ذلك التحول، أو أداء الدولة نفسها. فمهما كانت عناصر "الحاكمية الصالحة" مطبّقة أو غائبة في تلك الصيرورة فإنها لا تصل لدرجة إحداث الكتلة الحرجة في النجاح أو الفشل. ما يطرحه في المقابل هو معيار أداء الدولة في إحداث التحولات الإقتصادية والإجتماعية التي تشكل الأسس العميقة لبناء مستديم تقوم عليه أية حاكمية صالحة في مرحلة لاحقة. ورغم الحذر الشديد الذي يبديه الكتاب في نقد أطروحة الحاكمية الصالحة في الحالة الفلسطينية، والعالمثالثية، إلا أن وقوعه في مطب تسويغ الأمر الواقع وأحياناً إبداء الليونة إزاء الفساد السياسي والإقتصادي والإداري يظل إحتمالاً ماثلاً على الدوام. وبقليل من سوء النية، فإنه يقدم تبريراً أكاديمياً باهراً للأنظمة الديكتاتورية والفاسدة وأحوالها. لكن بعيداً عن سوء النية أو حسنها، فإن الكتاب فيه عمق يتجاوز مماحكات الحكوميين الذي يفرحهم ما يرد فيه. فصول الكتاب اللاحقة تفكك نظرية الحاكمية الصالحة عند من يحاصر السلطة الفلسطينية بها من خلال تطبيقها على الجوانب المختلفة لأداء السلطة خلال السنوات العشر. ويربط خيوط الفشل الجزئي هنا وهناك بالخيط المركزي الذي ينتهي بالإحتلال وبالعلاقة الإحتلالية التي حافظ عليها أوسلو وأعاد ترسيمها. فمشكلة إسرائيل سواء في أوسلو أو غيره هي في كونها لا تبدو كمن حسم أمره في ما يتعلق بما تريده حقاً إزاء الحل النهائي. فما يطرحه أوسلو على الفلسطينيين، بحسب الكتاب، واحد من نموذجين، الأول هو "الدولة الزبائنية" client state أي الخاضعة للأهداف العليا للدولة الإسرائيلية والتي تقوم بالتخفيف عنها في المسائل الشائكة الكبرى، وخاصة الأمن واللاجئين. وفي هذه الحالة هناك صيغتان: الأولى أن تكون هذه الدولة/الدويلة مندمجة مع إسرائيل بحيث يستفيد السكان الفلسطينيون من إرتدادات الإندماج الإقتصادي. والصيغة الثانية أن تظل هذه الدويلة منفصلة عن إسرائيل مجردة حتى من مجرد "الإنتفاع الطفيلي" من الإقتصاد الإسرائيلي وتنفذ ما يُطلب منها. أما النموذج الثاني فهو دولة مستقلة ذات سيادة حقيقية لها خياراتها السيادية وفق مصالحها، وهو ما لا يبدو في الأفق، خصوصاً أن الكتاب يرى أن خريطة الطريق ومبادرة جنيف أيضاً لا تخرجان عن بنية أوسلو وعمارته المصممة عضوياً على قواعد "الدولة الزبائنية". ويرى أن فشل كامب ديفيد الثاني كان سببه الحقيقي الشد بين خيار "الدولة الزبائنية" و"الدولة المستقلة"، وحيث لم يتم فعلياً طرح الخيار الثاني على الفلسطينيين. يجادل الكتاب أن الإختلالات المرتبطة بالسياسة التنفيذية للسلطة الفلسطينية تقع تحت ثلاثة أصناف. الصنف الأول مرتبط بتشجيع المركزية في السلطة الفلسطينية وضمان سيطرتها على الأوضاع، وهذا منبثق من الهاجس والأولوية الأمنية التي طلبتها إسرائيل من السلطة. وما هو وثيق الصلة بهذه المركزية مسألة تجميع إسرائيل أموال الضرائب الفلسطينية في حسابات بنكية إسرائيلية لا تصل إليها إلا الرئاسة الفلسطينية نفسها. أما الصنف الثاني فهو الإختلالات الفلسطينية الداخلية المنشأ مثل الفساد المالي والمحسوبية وغير ذلك. وهذا الصنف هو الذي يجب أن يكون هدف برامج الإصلاحات. أما الصنف الثالث من الإختلالات فمثير بشكل خاص لأنه يُعتبر إختلالات من وجهة نظر مدرسة "الحاكمية الصالحة" بينما، على الأرض، حقق نتائج تنموية مهمة، قياساً بالبدائل الأخرى المتوفرة. وعلى سبيل المثال كانت إدارة السلطة لبعض الإستثمارات وجذبها لبعض رؤوس الأموال ومنحها حوافز تشجيعية أحياناً على شكل إحتكارات إستثمارية لعدد من المستفيدين من الخارج، الطريقة الوحيدة لإقناع رؤوس الأموال تلك بالقدوم إلى منطقة صراعات غير جاذبة بالتعريف للإستثمار. وقد تمكنت السلطة من المساعدة في إنجاح الكثير من الإستثمارات والإبقاء على ربحية جيدة لها بما ضمن بقاء المستثمرين في الضفة الغربية أو قطاع غزة. وهذا النجاح الجزئي يعتبر فسادا من قبل مدرسة "الحاكمية الصالحة" لأنه لا يقوم تماماً على فكرة السوق والتنافس الحر. وفي نفس الوقت وجدت السلطة نفسها مضطرة لإعادة توزيع العوائد القليلة لتأمين الإستقرار السياسي عن طريق خلق المناصب والتعيينات الإسترضائية. لكن الإنفاق على هذه المناصب كان يأتي من المصادر الريعية التي يُخشى أن تنضب يوماً ما. وإن حدث ذلك فربما تفتت الإستقرار السياسي الهش وحدث صراع على المصادر الريعية الناضبة بما يشرذم الوضع إلى زبائنية متصارعة ومتحوصلة أجزاؤها على بعضها البعض. وهذا ما حدث في كثير من البلدان النامية حيث حلت الصراعات الأهلية مكان الإستقرار السياسي الجزئي القائم على توزيع إسترضائي للولاءات السياسية. مقاربة الكتاب تنموية إقتصادية إلى حد كبير بما قد يعرّضه للنقد، لكن أكاديميته الصارمة تشفع له، خاصة وأن تركيزه على أن الإختلال الكبير في أوسلو هو إرتكازه على مفهوم الأمن أولاً. ولهذا فإن خلاصته المهمة تعيد النقاش إلى المربع الأساسي الأول وهو أنه طالما بقيت هيكلية أي حل تقوم على فكرة "الأمن أولاً" فلا يمكن أن ينفك هذا الحل من قيود الزبائنية والوظائفية المناطة بالدولة الفلسطينية الناشئة ووفق جدول المهمات الإسرائيلي المحدد لها. وما لم يتم التخلص من منطوق الحل الأمني فإن الأمل بالوصول إلى دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة سيظل بعيداً.