للمرة الثانية في غضون أسابيع قليلة، سجلت سياسة التحرك السعودي النشط لتطويق الأزمات في المنطقة تمهيداً لتفكيكها، ما لا يمكن وصفه بأقل من إنجاز، يتجاوز تبريد هذه الأزمات لوضعها على طريق التسويات، بعدما استفحلت من العراق الى لبنانوفلسطين. فبعد اتفاق مكة الذي رعاه خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز لحقن دماء الفلسطينيين، بوقف صراعاتهم التي كادت ان تطيح كل تضحياتهم، جاء اتفاق الرياض ثمرة للقمة التي جمعت الملك عبدالله والرئيس الإيراني محمود احمدي نجاد، ليضع علامة بارزة على طريق إخراج المنطقة من النفق المظلم. والذين شاهدوا الملك ممسكاً بيد ضيفه تودداً لدى وصوله الى المملكة العربية السعودية، أدركوا مجدداً ان إصرار الرياض على الهجوم الديبلوماسي ب"الصدمات"الإيجابية، سيعيد الى المنطقة آمالاً بالاستقرار الذي ضاعت معالمه بين كمٍّ هائل من الأخطاء التي ارتكبتها واشنطن ومعظم الأطراف الإقليميين، بمن فيهم الإيرانيونوالعراقيونوالفلسطينيونواللبنانيون والسوريون. وأول ما أحبطته قمة الرياض، أصوات في إيران حاولت قطع الطريق على التهدئة فيما طبول حرب اميركية أخرى تقرع لردع طهران عن إكمال برنامجها النووي. ولأن احداً في الجمهورية الإسلامية لن يستطيع المزايدة على الرئيس نجاد في تشدده، لن يكون مبالغة تلمس بداية انعطاف ايراني متدرّج، قاعدته ما أعلنه وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل عن ان القمة أثمرت اتفاقاً على مكافحة امتداد الصراع الطائفي في العراق. بديهي ان إخماد نار الحرب المذهبية في هذا البلد الذي ما زال عالقاً بين فكي القتل اليومي والاحتلال الأميركي، يشكل أولوية في نهج القيادة السعودية التي تتعاطى مع مثلث الأزمات، من فلسطين الى العراقولبنان، بحكمة التدرّج... وهو ليس من ذاك النوع الذي يحرق المراحل، فيولّد تسويات ناقصة، تتهاوى عند اول هزة. وكان للرئيس نجاد ان يختار لغته في إعلان اتفاق سعودي - إيراني على"التصدي لمؤامرات تقسيم العالم الإسلامي"، مما لا يمكن ترجمته إلا بتحمل طهران مسؤوليتها في كبح الرياح المذهبية التي تنخر وحدة العراق، وتهدد بانهيار الكيان اللبناني على جميع ساسته وأهله. لعل أول مفاعيل القمة السعودية - الإيرانية ينعكس في المؤتمر الدولي المرتقب في بغداد، حيث سيجلس الإيراني وحليفه السوري حول طاولة واحدة مع الأميركي، ولواشنطن ان تتلقف بالطبع وجهاً آخر لاتفاق"مكافحة امتداد الصراع الطائفي في العراق"، فيه أو منه أو كلاهما معاً، عبر"سلوك"مغاير لا بد من ان تقدم عليه طهران في هذا البلد وفي المنطقة عموماً. و"أبسط"مثال عدم عرقلة المصالحة السياسية في العراق، والتدخل لدى المعارضة اللبنانية لإقناعها بأن الوقت حان لإبعاد شبح الحرب المذهبية عن لبنان، وبأن صيغة"لا غالب ولا مغلوب"لا تعني حصول المعارضة على كل مطالبها، اياً يكن حلفاؤها و"أوراقهم". صحيح انه لا يمكن إغفال سورية ودورها، والضغوط التي تشتد حولها بسبب ممانعتها في إنشاء المحكمة التي ستقاضي المتهمين باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، لكن الصحيح ايضاً ان تطابق نهج"الصدمات الإيجابية"السعودي مع التحرك المصري لفتح نوافذ دمشق على تسوية ما، لا تتنازل عن المحكمة، في وقت تفتح طهران ابوابها للتعقل الذي طال انتظاره بسبب سياسة"إغراق"الأميركيين في مستنقع العراق، و"الانتصار"عليهم في لبنان... كل ذلك سيدفع سورية ايضاً الى مراجعة حساباتها، حين تدرك ان ساعة الحقيقة دنت في الخيارات الإيرانية. ومهما قيل حول حاجة ايران الى تخفيف الضغوط الدولية التي تحكم الحصار عليها اكثر كلما نجحت في تخصيب مزيد من المخاوف من برنامجها النووي، وكون تلك الحاجة دافعاً اساسياً وراء اقتناع طهران بحتمية تفاهمها مع السعودية... يبقى المهم للمنطقة فتح ثغرة في جدار التصعيد الأميركي - الإيراني تمهيداً لتبريده، وكذلك إخراج العراقولبنان من عنق الحروب والأزمات. إن نهج"الصدمات"الإيجابية التي تتسارع وتيرتها عشية القمة العربية في الرياض، سيؤرّخ لبداية مرحلة جديدة، الأمل بأن توقف الانهيار العربي، والفضل للسياسة السعودية الساعية الى تعريب الأزمات، بعدما نخر التدويل في هوية المنطقة وانتمائها... نتيجة طيش التحدي والمغامرات، لدى بعض العرب وجيرانهم والأميركيين.