تتزاحم الأحداث متسارعة على مساحة قوس الأزمات الممتد من موريتانيا الى افغانستان، في تراكم يحمل على متنه نسبة من المتغيرات، طاولت بنى وأوضاع الشرق الأوسط، واستحدثت ثلة من المفاهيم والآراء والمواقف، لا توحي بسلامة النية ونزاهة الطوية، في وقت يشكل تنوع الهوية مقدمة لتفاوت الرؤى، حول السياسة الأميركية والدولية، وأهدافها التي تهدد استقرار المنطقة العربية واعدة ومتوعدة أنظمتها بضرورة الاصلاح، بما يتلاءم مع النظام العالمي الجديد الذي تقوده واشنطن، التي اعلنت ونفذت حربها على الارهاب، لتدمير مناخه وخلاياه وتجفيف ينابيعه وردع استطالاته، وما زالت محصورة في مستوى الأمن الذي يفتقر الى الحلول السياسية، في مهمة تؤكد عليها لإجبار الدول الممانعة على الاندماج في المجتمع الدولي والتوقف عن زرع العراقيل أمام الأمن القومي والاقليمي والعالمي. لقد خلقت اميركا تغييرات بيئية شرق أوسطية متحولة لصالح استراتيجيتها، على رغم العثرات الطارئة في مسارها المتعرج والشائك وأقدمت بعد لأي على"تنحية وزير دفاعها رامسفيلد ومندوبها الى مجلس الأمن جون بولتون وغيرهما، وتمت هذه المناقلات تحت تأثير نتائج الانتخابات النصفية، التي أعادت الحزب الديموقراطي الى واجهة السيطرة على مجلسي النواب والشيوخ. هذا لا يعني الكثير في سياسات الإدارة، كون المحدد الأساس لتوجهات الدولة كامناً في المصالح والعلاقات والاستراتيجيا ومستوى التطور، وفي السلطات لإدارات ومؤسسات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية ناهيك عن التزامات واشنطن على الصعيد العالمي. أي أن الفوارق بين الحزبين تقع في وسائل ووسائط التنفيذ وأولوية الاهتمامات، وليس في جوهر الصراع والعلاقات والثقل الحضاري عموماً. الأمر الذي أعاد القرار الى الطرف"التقليدي"من المحافظين الجدد. وعلى رغم وقوف تشيني وراء بوش كاحتياط أخير لنهج المحافظين الجدد الثوري، أتى غيتس، وزير دفاع، يميل الى الحلول السياسية أكثر من الانحياز الى الحروب، تبقى الوقائع المادية لها الأسبقية في توجيه الموقف الأميركي الذي نراه اليوم في التردد عن ضرب ايران، وربما نجح في استبداله بالاحتواء والضغوط التي تشهد مجموعة من التحركات العسكرية والتسريبات الاعلامية عن هجوم نووي ذكي، يدمر المفاعل الايرانية، لجرها كي تمارس براغماتيتها على حساب الرئيس نجاد، لصالح تيار الاعتدال الذي يمثله رفسنجاني وخاتمي وكروبي. علماً ان الاطمئنان لهذه الوجهة وثباتها، لا يوحي به الاصرار الأميركي على"معاقبة"سورية وايران، بعد نجاحها المنتظر مع كوريا الشمالية، التي لم تتراجع الادارة عن اعتبارها من دول"محور الشر"حتى إتمام تخلصها من سلاحها النووي. وهي تتعامل مع النظام السوري بتشدد بارز، تخيره بين تغيير سلوكه على طريقة القذافي الذي لم ينل أي جائزة على انضباطه سوى"بقاء"نظامه، وبين محاصرته والضغط عليه، ويمكن ضربه، لوقف ممانعته العرضية والهادفة الى تحسين شروط التحاقه بالسياسة الأميركية. وبعد الحرب الاسرائيلية على لبنان، أكدت واشنطن على موقفها المعتمد من القرار 1559 الذي ينص على سحب سلاح الميليشيات وبسط سلطة الدولة.. الخ، وتركت سلاح"حزب الله"للحوار اللبناني الداخلي ورعت القرار الدولي الرقم 1701 الذي وافقت عليه كل الأطراف من حكومة السنيورة الى"حزب الله". وشهدنا تراجع بوش وإدارته عن اتهام ايران بتسليح"المقاومة"العراقية بنوع متطور من الصواريخ والقاذفات.. الخ، وحصرها ببعض القادة نجاد فقط هادفاً من ذلك الى تحييد النظام، حتى أنه لم يلم المالكي الذي أفسح المجال أمام اختفاء مقتدى الصدر ومعاونيه قبل تنفيذ الخطة العراقية الجديدة. وقبلت بالدور السعودي في رعاية اتفاق مكة بين"فتح"و"حماس"مع بعض الملاحظات وان كانت قد وافقت على رأي اسرائيل المؤيد من تيار المحافظين الجدد ومنظمة"إيباك"في الإبقاء على الأنظمة العربية"الممانعة"والتي تفاوض الكيان الصهيوني كشف عن لقاءات الحوار أخيراً والتي تمت بين سورية واسرائيل قبل وإبان حرب ال33 يوماً على لبنان خوفاً من أن يدخل التغيير اسرائيل في مرحلة ضبابية، ربما شهدت هيمنة التيار الديني الذي يمكن أن يمارس شططه العسكري فتغاضت عن استمرار الأنظمة طالما ان الحدود مع الجولان هادئة منذ سنة 1974، ولم تحرك السلطة السورية ساكناً في حرب اسرائيل الأخيرة على لبنان. تعمل اميركا مع الأنظمة المعتدلة منذ معاداتها للاتجاه القومي المقاتل، ووراثتها لتركة الاستعمار الأوروبي بعد الحرب العالمية الثانية. وما زالت العلاقة جيدة ومثمرة، على رغم الضعف العربي وتقلباته وتحديداً بعد كارثة 11 أيلول والرد عليها بالحرب على الارهاب. ومع سقوط النظام العراقي وقبله حكم"طالبان"، قوي النظام الايراني وتراجع الدور السوري بعد أن كان رئيس سورية الراحل هو الذي يملي على حلفائه السياسات الشرق أوسطية. ويمكن أن يشجع موقف كوريا الشماليةايران، وهي في المراحل الأخيرة من الحوار مع الموقف الأميركي الذي يعتوره رأيان: الأول: يقول بتقديم المزيد من الحوافز والمساعدات لطهران بالاضافة الى التخصيب السلمي لليورانيوم في روسيا مقابل تخليها عن المفاعلات النووية والحد من دورها الاقليمي ومنعها من الوصول الى البحر المتوسط، والمساعدة لا السيطرة في العراق. الثاني: التسليم لايران بانتاج سلاحها النووي وامتلاك قنبلة أو اثنتين ضمن ضوابط وقيود دولية وبرعاية الأممالمتحدة، وتحت اشراف الولاياتالمتحدة. وهذا الخيار ما زال قيد الدرس، وقد صرح به الرئيس شيراك، بطريقة امتزج فيها الجد بالاستسهال. أما سورية التي تقف بصلابة ضد المحكمة ذات الطابع الدولي، وهي تسعى الى الحوار مع اميركا عبر نداءات متكررة حملتها الخطب والمقابلات والتصريحات، لتأمين مخرج لا يطيح النظام السوري عبر المحكمة ذات الطابع الدولي، أو عن طريق توريطه لضربه، ولن تفيده روسيا التي التزمت كل القرارات الدولية الخاصة بلبنان والمؤثرة على ايران والتي تتناول فلسطين، خصوصاً بعد أن بدأنا نسمع تقولات بعض المثقفين حول عودة الحرب الباردة لتدفع المجتمع الدولي، اعتماداً على تصريحات بوتين الصاخبة التي حمل فيها على الهيمنة الأميركية على العالم، وهي مستوى مقبول من الخصومة والتنافس والتحذير في عصر العولمة، لا تعبر عن استراتيجيتين متضادتين. وانما عن اندماج طبيعي لروسياوالصين في النظام الرأسمالي العالمي، حتى ان رفض أمركة العالم كسياسة تلخّص عقيدة بوش، تؤكد عليه أيضاً كل من آسيا واوروبا بأشكال متفاوتة، حادة وخجولة. والفرق كبير بين الصراع على اقتسام العالم، وبين إعادة التوازن والاستقرار اليه وعلى امتداد كل جنباته. ان الذين يتكلمون عن عودة الأصولية الدينية الى اوروبا وتناميها في اميركا، يخدمون التيار الاسلامي في التشبث بالدين وتغييب العقل ومعاداة الحداثة، لأنه يعتبر أن الديموقراطية سقطت على أرضها في الغرب ولا تنفع لبلادنا. ويقدمون التحليلات المسهبة والأقوال السيالة والقراءات المرسلة على عواهنها ومن دون تبصر أو تدقيق، التي تبشر بقرب زوال اسرائيل ودنو ساعة انهيار اميركا، لا يضاهيها في الغباء الا الذي يصرح مستسهلاً، ان"الاسلام هو الحل"أي البديل الذي سيتبوأ القيادة العالمية على انقاض الولاياتالمتحدة، في تجاهل متعمد لقوة الوحدة الأوروبية والآسيوية بتوجيه اليابان وتعملق الصين وتطور الهند والبرازيل.. الخ. هذه التحولات في السياسات، ستطاول البنى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وستغير في البناء العضوي على مستوى الشرق الأوسط الكبير أو الجديد، بصرف النظر عن الآلام التي سيشهدها هذا الطريق. * كاتب لبناني